نعيش الآن في زمن ثورة الاتصالات الاجتماعية التي جعلت العالم قرية واحدة، بمجرد كبسة على جهاز الهاتف يطل علينا العالم بأسره. تقنيات ساعدت على تسهيل حياة الناس في التواصل مع بعضهم البعض. وكأي تطور أو تغيير لا بد من تواجد الايجابيات والسلبيات والجوانب المضيئة والمظلمة.
لعل من أكثر من استفاد من هذه الثورة أهل الغربة الذين كانوا يعانون المر حين كانوا يهمون بالتواصل مع أهلهم كلما أصابتهم لوعة الحنين وأضناهم الشوق إلى الأحبة والوطن؛ فمع وجود هذه الشبكة؛ أصبح الأمر ميسرا لهم على الصعيدين المادي والعاطفي؛ إذ بات بالإمكان الاتصال بالصوت والصورة مع الأهل بأقل التكاليف.
وجدت أيضا المواقع الاجتماعية التي تساعد على ربط أواصر الأسرة ببعضها البعض برباط متين، وتلك التي تتحدث عن أساليب التربية، والسبل إلى بناء أسرة تشارك في بناء المجتمع، بحيث يمكن للأسرة الاشتراك في جمع هذه المعلومات والاستفادة منها من أجل صنع مجتمع رصين.
وقد استطاعت هذه الشبكات أن ترصف الطرق لتسهيل التعرف على ثقافات البلدان في أنحاء العالم؛ إذ تتوفر الصفحات التي تزخر بالمعلومات والعلوم والثقافة باختلافها؛ بل وبات من السهل جدا التواصل مع كل سكان الأرض بمختلف جنسياتهم وبهذا أرضت فضول الباحثين عن العلم ويسرت السبل لهواة الصداقات والمراسلة الذين كانوا ينتظرون الأشهر في انتظار وصول الرسائل.
أيضا فتحت هذه الشبكات النوافذ على مصراعيها لعشاق الأدب فانتشرت الندوات الأدبية والجمعيات الثقافية وساعدت الجميع على التقرب من أصحاب القلم والفكر؛ بل وفتحت الفرصة للجميع بتجربة القلم للدخول في عالم الأدب.
أيضا فتحت هذه الوسائل بابها للشباب والصبايا للتعرف على قضايا المجتمع؛ وأعطتهم الفرصة لتبادل الآراء ومعرفة الميول المختلفة والتعرف على بعضهم البعض بصورة اوضح.
وكما أشرت أعلاه فإن لكل أمر جانبه المضيء وجانبه المظلم، فرغم التقارب الذي ازداد ورغم تقلص مسافات البعد بين الأهل والأقارب والأصدقاء إلا أنه تشكلت فجوة تكاد تكون عميقة؛ فالتواجد اليومي على تلك الشبكات قلص من مساحة الشوق، فبات من العادي جدا المرور على صفحات الأهل دون ارسال تحية؛ ومما زاد الطين بله، أن تلك الوسائل استطاعت أن تكشف عيوب الجميع، فمثلا الفيس بوك ما هو إلا كشف للوجه الحقيقي لكل مستخدميه ومهما حاولوا تلميع ملامحهم، ساهم ذلك في خلق مسافات وفجوة بين الأقارب رغم تواصلهم الظاهري.
كذلك أصبحت هذه الشبكات وسيلة سهلة لعرض ونشر المناسبات اليومية التي جعلت أصحاب المظاهر يملؤونها بكل حدث صغير، من خلال عرض صور زياراتهم إلى المطاعم إلى صور الزواج الى حفلات التخرج ؛ فباتت المناسبات في سبيل التباهي أكثر من الاحتفاء بالحدث نفسه، ففتح ذلك مجالا إلى أن تأخذ الغيرة والحسد والحقد عند البعض مكانها في سراديب هذه المساحة الشاسعة من حب المظاهر والتظاهر بالسعادة والرخاء، وهذا بالطبع من شأنه أن يزرع فجوة في العلاقات ويحولها إلى علاقات جافة ومجاملات فارغة من العاطفة..
لم تسلم العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة أيضا من التأثير السلبي لشبكات التواصل فقد انعدم التواصل بين الجميع، بسبب انشغال كل منهم بتواصله مع أصدقائه، فبات كل يسرح ويرعى في واد، ويغني أغنيته على ليلاه، فتشتت الأسرة وأصبحت في .عزلة كبيرة، بل وتعدى ذلك أيضا إلى زيادة نسبة معدلات الإنفصال
وبالرغم أن شبكات التواصل فتحت النوافذ على العالم الآخر، إلا أن ذلك لم يمنع من اشتعال الفتن والفساد والطائفية والعنصرية في جنباتها؛ فنرى الناس باختلافاتهم بالجنسية والدين والمذاهب قد جعلوا من هذه الشبكات ساحة للقتال والصراع وتمرير السموم والعنصرية والطائفية مما جعل الفجوة تتسع لتشمل مجتمعات وبلدان بأسرها، .ويضعنا في عزلة وقوقعة فكرية ..
في الساحة الثقافية والأدبية نجد عزلة من نوع آخر ؛ فرغم كل الندوات ومعارض الكتب إلا إن الخلافات والحسد والغيرة كانت فراشا دثيرا لنماء علاقات هشة كطحالب بحر عالقة تنتظر أضعف موجة بحر لتعلن الرحيل. فالظاهر يوحي بتواصل أدبي والواقع يؤكد عزلة فكرية واجتماعية ونفسية.
أما الأكثر خطورة فهو عالم الشباب عماد المجتمعات ؛ ويحضرني في هذا المقام قول أديب سامق؛ شوفوا ما أحلاني؛ تهكما على الصور المنشورة بطريقة غريبة لبعض الشباب والصبايا، فقد باتت العلاقات السائدة تعتمد على المظاهر الهشة والمناسبات الفجة الفارغة من أي هدف نبيل ، وكأن في كل حدث يقول، انظروا كم أنا سعيد، مظاهر اجتماعية تجلب تواصلا يبدو من الضحامة ما لا يمثل الواقع، كقطعة من الشوكولا ضخمة مزينة بأجمل الألوان وداخلها فارغا؛ هكذا هي علاقات غالبية الشباب فكر فارغ وتواصل بارد فج مآله تقوقع في الذات وعزلة عن الواقع..
وقد كنت أدرجت سؤالا في صفحتي الخاصة بالفيس بوك عن العزلة التي نعيشها فجاءت النتيجة .بأن غالبنا يعيش هذه العزلة بكل سعادة بعيدا عن الضوضاء . .
لقد بتنا في عالم يزخر بآلاف مواقع الاتصال وآلاف الأصدقاء والنتيجة؛ تقوقع وعزلة مع جهاز لا يتجاوز حجم الكف..
وللحديث بقية.