محمد يحظيه ولد العاقب، رجل بالمكارم عرف أين ما وطئت قدماه، ظننت و - أنا المحتسب لألم فقده - أن رحيله من قبيل رحيل العظماء و لا حق لنا في الحزن على من لا خوف عليه و لا هو يحزن إن شاء الله لكنني كلما سمعت أحد المعزين يعدد مناقبه تتوسط حلقي غصة لا تخرجها آلاف الزفرات.
عددوا ما عرفوه عنه من خيرة الأعمال و ما خفي أعظم، جاء الجميع و لا حق لأي كان في التغيب عن عزاء رجل لا يرحل مثله عن الدنيا كل يوم، جاء جيران البيت، جماعة المسجد، رفاق الدرب، أصدقاء العمل، و الغريب جاء الشباب ليشهدوا لشائب بما كان من الحق و بما عرفوه رغم اختلاف السن.
شهد الجميع بجماله، نعم جماله كان جميل الأخلاق فجمع منها أحسنها و وزعه على البعيد قبل القريب.
تكلموا عن صدقه، أمانته، طيبته،ايمانه و كرمه ثم هل لعدد مزاياه نهاية؟
شهدوا له بتصدقه الدائم على السائلين و الأطفال، شهدوا له بحضور لا يحول دونه شيء في صفوف المصلين في بيت من بيوت الله طالما جمعهم، شهدوا له بلسان رطب بذكر الله، شهد له كل من عرفه بحسن المعشر أ طال زمن تلك المجاورة بينهم أم قصر كان رجلاً على رأي المثل الحساني "الف ليلة منو كيف ليلة وحدة".
قال معارفه هذا عنه فماذا يقول إبنه؟ أنا لا أملك سوى الحب الذي أحمله بقلبي له و الاحترام الذي تفرضه هيبته، لكن دعوني أحدثكم قليلا عن عمله و هي - لعمري- مسيرة مهنية يحق للموريتانيين عامة و الاعلاميين منهم خاصة أن يفخرو بها.
كان رحمه الله أحد أعلام الصحافة الموريتانية، وهو المدير المؤسس لجريدة "الشعب" اليومية التي أصدرتها الشركة الوطنية للصحافة تحت إدارته 1975،كان الفقيد معروفا بالتحلي بكل أخلاقيات المهنة، و تمكنه العالي من ممارسة عمله الميداني كمراسل صحفي، او الاداري حيث برع في تسيير المناصب التي تقلدها في المؤسسات الصحفية.كانت بداياته في الحقل الصحفي سنة 1963 عبر الإذاعة الوطنية.فكان الرجل المناسب في المكان المناسب فمعرفته بأبجديات صاحبة الجلالة لم يأتي وليد الصدفة إنما نتيجة سنوات من الدراسة فقد تلقى تكوينا في معهد للصحافة بمدينة (ليل) الفرنسية . مع نهاية الستينات و بداية السبعينات و تحديدا بين 1969 و 1971 ترأس تحرير الأخبار و عين مديرا للبرامج . و كشهادة دولية على استحقاقه اختارته وكالة رويترز ليكون مراسلها في موريتانيا في الفترة ما بين 1969 و 1976. و خلال تلك الفترة عين نائبا لمدير الصحافة المكتوبة.بعدها و من سنة 1978 إلى سنة 1989 اختار المرحوم محمد يحظيه ولد العاقب أن يكون مراسلا للوكالة الموريتانية للصحافة في مدينة كيهيدي. ثم كان أول مدير للتلفزيون الموريتاني حتى 1990. واشتهر بمراسلاته الإذاعية حينما كان يرافق رئيس الجمهورية المرحوم المختار ولد داداه في جولاته الخارجية الذي ظل وفيا له حتي بعد الانقلاب و لكنها رفقة و حب لم يمنعاه أن يكون موضوعيا كصحفي مع الرجل فكان هو من أعطى خبر الاستفتاء الديغولي للمحطة الدولية التي يعمل لديها و هو السبب الذي جعله يفقد وظيفته في موريتانيا، كما سبق له و سأل المخطار رحمة الله عليهما في لقاء مباشر عن إمكانية رجوع الهاربين من الوطن بحثاً عن الحريات من عدمها حين حدثه هذا الأخير عن الإنفتاح السياسي الوليد للبلد. ثم إن شهرته لم تتجاوز المعنيين، فقد كان رحمه الله قليل الصور لا يبحث عن الأضواء أو البرستيج رغم أنه مارس هذه المهنة بنبلها الذي وجدت به فقد كان يمنح من عمره و جهده و صحته و حتى من جيبه ليبني صحافة هذا البلد كما فعل حين طرد الصحفي الفرنسي الوحيد و إياه آنذاك بعدما رأوا منه عدم احترام لهذا الشعب و تكلف رحمه الله بالقيام بكل ما يتطلبه الأمر رغم المشقة و الصعاب و لم يطلب مقابلا فما بالك بالبحث عن غير ذاك من العطايا. ثم إنه عرف ببرقياته المهنية لرويترز و البي بي سي والوكالة الموريتانية للصحافة كما حصد الكثير من الجوائز و الأوسمة الوطنية و الدولية.
سياسياً صوت للرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز لا لشيء إلا لأنه طرد السفير الإسرائيلي و لذلك منحه صوته و هو أمر أشهد له به بين يدي الخالق و هو أمر أيضاً تعرفون جميعا ما يعنيه.
حين عزل المرحوم المختار ولد داداه و تنكر له الكثيرون ظل هو وفياً له و لغيره من أعضاء نظامه الذين تعرضوا للمضايقات، ذاد عنهم بصوته و ماله و كان نعم الصاحب و السند.
كان أيضا قوي الشخصية بشكل ملحوظ و معترف به و كان شجاعاً لا يجامل في مهنته، كما عرف رحمه الله بكثرة الذكر فكان إسم الجلالة يطغى في كل أحاديثه مهما أختلفت و بذاك نشهد و لا نزكي على الله أحداً .
رحمه الله و جعل الفردوس الأعلى مثواه و جمعنا و إياه في جوار المصطفى الحبيب.
حين رحل فقدت موريتانيا رجلا قل أن يجود الزمام بمثله، فقدت أنا والدي و فقد الحقل الصحفي فارسه فإنا لله وإنا إليه راجعون.
لا نقول إلا ما يرضي الله و لا نجد في تأبينه مفردة واحدة ترقى للتعبير عن حجم اللوعة التي خلفها فراغه,لكنه رحل و إنا لفراقه لمحزونون. هي الدنيا دار فناء و لو كان بها خير لما غادرها الحبيب المصطفى و لا يحضرني في هذا المقام إلا " الگاف" :
الدنيا ي مالك لملاك.. لو كانت تبق محق
يبق فييان منها ذاك.. يغير الدنيا ما تبق
البشير سيدي محمد