ليس نيابة عن السيد وزير المالية | صحيفة السفير

ليس نيابة عن السيد وزير المالية

خميس, 16/02/2017 - 11:45

"الكرة الطويلة" التي وضعها وزير الاقتصاد والمالية، من دبي، على ضفاف الخليج العربي في مرمى المدونين بنواكشوط على شواطئ المحيط الأطلسي، عبر تدوينة عن توقعاته للاقتصاد الموريتاني انطلاقا من مشروعات تنموية هي التي يوردها الاقتصاديون عادة كلما تحدثوا عن النمو والتنمية، تلك الكرة لا زال يداعبها تيار الكناري السائد هذه الأيام في ذلك المرمى، فبخلاف السخرية والتهكم الذي قال السيد الوزير إنه تعودهما وكان يتوقعهما، لم نجد نقاشا جادا يكون أساسه النقاط والمشروعات التي تحدث عنها الوزير، لا شخص الوزير نفسه أو الحكومة التي يعمل ضمنها أو النظام الذي ينتمي إليه..
الوزير كان "طارح أبلد" لتسفيه النقاط أو المشروعات التي ذكرها، فاستبق الحديث عنها بأمثلة لمشروعات أخرى بدأ التشكيك فيها وفي جدوائيتها وفي إمكانية تنفيذها مع بدء الأشغال فيها، ورافقها ذلك التشكيك حتى نهايتها ودخولها للخدمة، كالمقاطع الطرقية الرابطة بين مناطق ومقاطعات البلاد، ومضاعفة قدرات البلاد الكهربائية بأضعاف، وكمشروع الحالة المدنية التي تستحيل تنمية اقتصادية واجتماعية وأمنية دون ضبطها واستغلال مخرجاتها في الجوانب التنموية المختلفة، وكمشروع المطار الذي بدأ استغلاله ولم يجد بعض مناوئيه والمشككين فيه بدا من الاعتراف بسلامة فكرته، فوصفه بعضهم بالإنجاز العملاق وبعضهم الآخر بالتحفة المعمارية.. هذا بالإضافة إلى إصلاحات ومشروعات اجتماعية وخدمية أخرى في الوقت الذي يستغلها ويستفيد الناس منها ينكرها المناوئون، ومن لم تسمح له أخلاقه منهم بإنكارها يُبخسها، فما بالك بمشروعات أخرى لا زالت في إطار برامج في طور الإنشاء أو التخطيط؟!
أمثل المناوئين ممن ردوا على تدوينة الوزير طريقة يقولون لك إن هذه المشروعات لم تنعكس على حياة المواطنين، وهذا من سابع المستحيلات، فلا يقبل العقل السليم أن شبكة مياه نقية لمدينة أو قرية كانت تعاني العطش أو تشرب المياه الملوثة مثلا لم تنعكس على حياة الناس هناك، أو أن طريقا معبدا سهل التنقل وتسويق الإنتاج والمبادلات بين مدينة وباقي مناطق البلاد لم ينعكس على حياة سكان تلك المناطق، أو أن سدا أو استصلاح أو تسييج أراض زراعية أو شق قنوات مائية إليها لم ينعكس على حياة وإنتاج الريفيين هناك، أو أن شبكة كهربائية لمدينة أو قرية وما يسمح به ذلك مما لم يكن ممكنا من أنشطة مهنية وتجارية تتوقف على توفر الكهرباء لم ينعكس على حياة الناس المستهدفين، أو أن مدرسة أو محظرة في قرية أو " أدباي " لم يكن له في السابق سياسي أو وجيه يجلب له قسما دراسيا أو اثنين، وسيبلغ أبناؤه سن الحلم وهم لا يخطون حرفا لم تنعكس على حياة ومستقبل أولائك الأطفال، أو أن إقامة مستشفيات وتجهيزها بالأسرة والأجهزة، ونأخذ كمثال أجهزة تصفية الدم لمرضى الكلى ممن كانوا يتكدسون هنا في نواكشوط في غرفة واحدة وجهاز تصفية وحيد لم ينعكس تعميم تلك الأجهزة على مستشفيات الداخل على حياة هؤلاء المرضى ويقرب هذه الخدمة منهم.
وعلى ذكر التكدس فلا يقبل العقل السليم أيضا أن يتكدس ما يزيد على 100 ألف مواطن في محيط العاصمة لعشرات السنين في أعرشة وأكواخ لا وجود فيها لأي نوع من الخدمات، ولا ينعكس عليهم تخطيط أحيائهم وشق الطرق والساحات لهم، ومنحهم أمتارا مربعة يملكونها ويبنونها حسب مقدرة كل منهم، فما دامت الإمكانيات لا تسمح ببناء مساكن لهذا العدد الهائل من الأسر، فإن أضعف الإيمان هو تمليكهم قطعا أرضية في أحياء مخططة بها ما أمكن توفيره من خدمات ماء وكهرباء وصحة وتعليم. فليقل المناوئون المفندون لكل هذه الجهود فقط إنهم كأشخاص لم يكونوا يعانون نقص تلك الخدمات، وهنا يكونوا معذورين ومفهوم تقليلهم من شأنها وأثرها على حياة من كانوا يعانون غيابها ويتطلعون لها، كما سيظهرون بذلك كالمهتم بشأنه فقط ولا يعنيه أو يهمه شأن ولا معاناة الآخرين..!
الوحيد مما أطلعت عليه مما يتناول بالتفصيل المشروعات التي تحدث عنها السيد الوزير، هو التقرير الذي نشرته اليوم إحدى الصحف المحلية عن تلك المشروعات، وما قالت إنه إختفاء لبعضها وتوقف الأشغال في بعض وتأخر في البعض الآخر، وهي حجج تعودنا عليها أيضا في تقييم هذه المشروعات من طرف البعض، وقد قلنا سابقا إنه لا عيب في أن يتأخر مشروع لعوائق مادية أو فنية ويتم استئناف إنجازه عند التغلب على تلك العوائق، أو يتم تأجيل مشروع آخر لنفس الأسباب أو لأسباب أخرى كظهور أولويات مستجدة أكثر منه إلحاحا، أو يتم إلغاؤه نهائيا لعجز مادي عن تغطية تكاليفه، أو تراجع مموله عن تمويله خصوصا أن من بين المشروعات التي تكلم عنها التقرير استثمارات أجنبية من يتحكم في تقدم الأشغال فيها أو التراجع عنها أو المضي قدما فيها هو المستثمر المعني بها، وهنا ما علينا سوى أن نتابع النشرات الاقتصادية على الفضائيات الدولية لنقف على عدد وحجم المشروعات التي يتم التخلي عنها يوميا، وتلك التي يم تأجيلها، وتلك التي يتم إدماجها في مشروعات أخرى.. وهنا أطالب الحكومة أن لا تجد حرجا في الإعلان عن المشروعات التي تتخلى عنها لأسباب فنية أو مادية، أو بسبب توجيه مخصصاتها إلى مجالات أخرى أهم أو ألح إذ لا حرج في ذلك!
فيما ما عدا هذا التقرير، فقد وجه مدونون دعوة للوزير ليكون ضيفا على ما يعرف بصالون المدونين، ومع أن القرار في قبول تلك الدعوة يعود للوزير شخصيا، والأكيد أن الحائل دون قبوله لن يكون " خجل " الوزير من منبر وقف على منابر أهم منه، ولا جهله لمفاصل وتفاصيل الحياة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، أو افتقاره لوسائل المحاججة والإقناع، إلا أنني لا أعتقد أنه سيدور فيه من نقاش إلا ما دار بين الوزير والمدونين على الفيسبوك، انطلاقا من تشكيلة هذا الصالون المكون من مجموعة ذات توجه سياسي معروف وقد شاركت في حملة التهكم والسخرية من تدوينة الوزير، كما سبق وأن انسحب عن هذا الصالون بعض ضيوفه واعتذر آخرون عن المشاركة فيه بسبب ما قالوا إنه قالب سياسي واجتماعي ثقافي غير مرحب بمواضيع أو مواقف مخالفة أو معاكسة لتياره، وقيامه على أساس تشكيل رأي عام في اتجاه سياسي معين.. وبالتالي فما المرجو من هكذا نقاش؟ سيقول المستضيفون ما سبق أن قالوه من أن هذه المشروعات لم تنعكس على حياة الناس، وسيقول لهم الوزير ما قلناه أعلاه من أنها انعكست لكن لن يشعر بانعكاسها إلا من كان يفتقدها، فيقولون إن تنفيذها شهد تأخرا أو أخطاء وسيقول لهم إن هذا طبيعي كعمل بشري في بلد بالكاد يحصل على موارد لتنفيذ برامجه التنموية من مصادر ذاتية أو خارجية أمام متطلبات كثيرة ومتشعبة، أو يقولون له إن تلك المشروعات كانت بصفقات مشبوهة، وسيطالبهم بأدلتهم على ذلك ليقولوا له إن سياسيين ووسائل إعلامية تحدثت عن ذلك، وسيكون رده أنه يريد أدلة ملموسة لا حديث سياسيين ووسائل إعلام، ليختموا بأنها " عنز ولو طارت "! 
الحانوت الذي سبق وأن قلت لكم إنني أقضى عنده بعض الوقت قبل حلول موعد النوم، جئته كعادتي قبل ليال ووجدته يتابع تقريرا في التلفزيون عن بناء أحد المحاور الطرقية الوطنية، يقول المهندس المشرف عليه إنه بمبلغ 13 مليار أوقية، فقال صاحب الحانوت إن هذا المبلغ كان من الأفضل أن يتم توزيعه على الفقراء.. قلت له بكم تقدر عدد الفقراء في موريتانيا؟ قال نصف سكانها فقراء، قلت طيب هناك إذن مليون ونصف فقير سنقسم عليهم هذا المبلغ لنرى كم سيحصل عليه كل واحد منهم وأجريت العملية، أي 13 مليار مقسومة على مليون ونصف، وقلت له هل تعرف كم سيكون نصيب كل فقير من هذا المبلغ؟ قال كم؟ قلت 8666 أوقية، قال " يفظمه " إذا كان هذا هو ما سيحصلون عليه فإنه غير مهم.. قلت له هكذا يجب أن توجه الموارد العمومية فيما يعم نفعه ويبقى ويكون محركا ومحفزا لنشاطات اقتصادية وإنتاجية أخرى، فالدولة كالأبوين يسعيان لأبنائهما فيما يفيدهم مستقبلا ويدخران لهم من قوتهم اليومي ما يضمن لهم ذلك المستقبل.. وبإمكان الدولة اليوم إذا كانت تريد أن تكون شعبوية العودة إلى هدر الموارد فيما لا يمكث في الأرض ولا يعم نفعه، وترك تلك الموارد دولة بين الناس أو إنفاقها في المشروعات الريعية التي لا يتبقى لملياراتها من آثار سوى القصور والفلل الشخصية أو " أجفف " سيارات " IF و SG " رباعية الدفع، وهو العهد الذي نعرف أن البعض يحن إليه اليوم ويسميه " عهد الخير "!
يشير الوزير في تدوينته إلى استفادة المشككين في حملاتهم من سوء الوضعية التي كان عليها البلد وعلى جميع المستويات والتي لازالت بقاياها ماثلة، وهو ما سبق وأن سميته أسلوب " الانقضاض أو الإجهاز السياسي " غير النزيه الذي يتبعه المناوئون مع نظام كان قدره أنه هو من انفجرت في وجهه تخمرات وتفاعلات عقود من السبات وتشبيك السواعد وغياب الرؤية والتفرج على المآسي والمعاناة، وتسيير البلد بعقلية عليك الساعة التي أنت فيها! فرأى الناس خلال حكمه اهتماما وتمددا لتدخلات الدولة نحوهم في مواطنهم، فأملوا وانفجرت مطالبهم وتطلعاتهم إلى المزيد من تعميم تلك التدخلات..
لا زالت شرائح من مواطني البلد تعاني الفقر؟ نعم، ولا زالت بعض مناطقه معزولة وتعاني العطش وغياب الخدمات؟ بلى، ولا زالت نسبة معتبرة من قواه النشطة تعاني البطالة؟ أجل، فلا أحد ينكر ذلك أو يدعي عكسه، لكن ولأن الفقير بعد أن كان في السابق هو من لا يمتلك نوقا أو بقرات، أصبحت اليوم له محددات ومعايير هي التي تصنفه وتحدده، وأصبح من يمتلك اليوم ودائع بعدة ملايين في البنك أو داخل صندوق، وله قطعان بقر وإبل وغنم لكنه لا يتوفر لديه الماء النظيف فهو فقير، أو لا تصله الطريق فهو فقير، أو لا يتوفر على خدمة الكهرباء فهو فقير، أو لا توجد لديه مدرسة لدراسة أبنائه فهو فقير، أو لا تتوفر بجانبه متطلبات العلاج فهو فقير، أو مضطهد أو مسلوب الحرية فهو فقير، أو مهدد أمنيا فهو فقير.. إلى غير ذلك من محددات الفقر التي أصبحت هي اليوم معياره ولم تعد ما يمتلكه الإنسان من موارد ومدخرات، ولو أن بعثة زارت اليوم ما يسمى ب " الحواضر " المنتشرة خارج المدن من تلك التي يمتلك سكانها بيوتا ومحلات تجارية مؤجرة في المدن، ويمتلك رجالها متاجر كبيرة في العاصمة أو غيرها، لكنهم فضلوا الإقامة خارج المدينة وضوضائها، لو أن بعثة جاءت لتقييم ظروفهم المعيشية لصنفتهم فقراء لأنهم يشربون من بئر تقليدية، أو لأنه لا تتوفر لهم مدرسة أو مركز صحي أو طاقة كهربائية أو طريق سالك.. هذا لكي نفهم الفقر بمفهومه الحديث، ولنعتبر ما تقوم به الدولة من توفير لهذه الخدمات لسكان البلاد هو السبيل لمكافحة الفقر بهذا المعنى.. أما غير ذلك فهو برامج الحماية الاجتماعية التي لو أمكن توفيرها للمواطنين جنبا إلى جنب مع إقامة البنى الأساسية كان ذلك جيدا، وإلا فالتركيز على البنى الأساسية أولى.
والتنمية كما يُعرفها بعض خبرائها هي كالطفل الذي يولد بين يديك لحمة، ثم يمر بمراحل نموه المختلفة والمتلاحقة إلى أن يصبح شابا بكامل قواه، فأنت لا ترى مراحل النمو تلك يوميا، فلا ترى انقسام الخلايا التي تزيد من حجم الجسم، ولا نمو وتمدد الغضاريف التي تزيد من طوله، ولا ترى تطور ونمو الدماغ الذي يتحكم في الحركة وتعلم النطق والإدراك، ترى محصلة تلك التطورات لكنك لا تدرك مراحلها وفيسيلوجياها رغم أن كل ذلك كان يجرى والطفل بين يديك.. وبذلك فبلدنا ينمو رغم التراكمات ورغم الصعاب والتحديات، ولن يكون نموه وتنميته إلا كمحصلة لمدرسة، ومعهد، وجامعة، ومحظرة، ومسجد، ومستوصف، ومستشفى، وخزان وشبكة مياه، ومحطة كهرباء، وسد، وقناة ري، ومزرعة، وواحة، وحظيرة حيوانات، ومطار، وميناء، وجسر، وطريق، وملعب، ووحدة تصنيع وتحويل، وحرية، وأمن واستقرار.. وهذا ما نرى النهج والمسيرة في اتجاهه إلى حد الآن، المهم فقط هو أن تكون تلك البنى بالمعايير التي تمكنها من الاستدامة، وأن نخلق لها آليات رقابة وصيانة ليلا نضطر إلى العودة إلى إقامتها من جديد.