منذ عام 1979 وأمريكا مع بعض العرب يعادون إيران ويحرضون ضدها ويعملون على استفزازها وأحيانا شن الحرب عليها. لم ينتظر هؤلاء حتى تتضح صورة إيران الجديدة، وتتبين سياساتها الداخلية والخارجية لكي يناصبوها العداء، وعادوها قبل أن تنتصر الثورة وحاولوا إنقاذ الشاه آملين أن يبقى نظام حكمه. قدمت أمريكا دعما قويا للشاه، لكن تقديرها كان أن بقاء الشاه أمر ميؤوس منه، وتركوه يواجه شعبه، بينما ناصب العرب الحركة الشعبية الإيرانية التشكيك في مختلف وسائل إعلامهم بهدف التأثير السلبي على معنويات الشعب الإيراني والتقليل من انبهار العرب بها. لكن الثورة انتصرت وتغير الوضع السياسي في إيران.
كنت أول من كتب كتابا عن الثورة الإيرانية في العالم بعنوان سقوط ملك الملوك، وقد أوضحت فيه السياسات المتوقعة التي سيتبناها بعض العرب والأمريكيين من أجل إسقاط النظام الجديد أو شلّه أوجزها هنا:
أولا: كانت مواقف الخميني من القضية الفلسطينية والكيان الصهيوني واضحة قبل الثورة، ولم يكن من المتوقع أن تؤيد أمريكا دمقرطة إيران لما في ذلك من أذى لإسرائيل. أما العرب فكانوا يخشون من يتمسك بحقوق الشعب الفلسطيني من غير العرب فيحشرهم في زاوية التخاذل والتخلي عن المقدسات الإسلامية في فلسطين. قدر العرب أن القضية الفلسطينية ستكسب زخما جديدا في المنطقة إذا زال نظام الشاه وانتصر الخميني بخاصة أن فترة الثورة شهدت خروج مصر من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي. وحقيقة تفاءل العرب المناصرون للقضية الفلسطينية بأن تكون إيران بديلا لمصر في حمل لواء القضية. وعليه لم يكن من المتوقع الصمت أمام انتصار الثورة، وكان لا بد من اتخاذ خطوات تعرقل المسيرة الإيرانية.
ثانيا: من حيث أن جمهوراً عربياً واسعاً كان متفائلاً بالثورة الإيرانية وبنصرتها للقضايا العربية، كان من المتوقع أن يعمل العرب بمساعدة أمريكا وإسرائيل وحلفائهما على إثارة أحقاد ونعرات قومية ومذهبية من أجل حمل الجمهور العربي على الوقوف ضد إيران وعدم تعلم النموذج الإيراني في التخلص من الاستبداد والفساد. ولهذا كان من المتوقع أن يتم تحريك فتنة السنة والشيعة والعرب والمجوس لكي تنهض الأحقاد من مرقدها وينبعث التاريخ الفتنوي من جديد. العرب يتهمون إيران بإيقاظ الفتنة المذهبية، لكن متابعتي لمجريات التحريض تؤكد أن بعض الأنظمة العربية هي التي سعت نحو الفتنة وعملت على تعميقها مع الزمن. استغل الحكام العرب بعض المقولات الشيعية التي تسيء لأهل السنة والجماعة وضخموها وبثوها لكي يقتتل الطرفان في صراع استنزافي لا يخدم سوى أمريكا وإسرائيل والاستبداديين العرب.
ثالثا: أتت الثورة الإيرانية بمقولة الاستقلال ورفض الهيمنة الخارجية، وبمقولة أمن المنطقة من مسؤوليات أهل المنطقة ذاتها وليس من مسؤوليات قوى خارجية مثل الولايات المتحدة. كانت هاتان مقولتان استفزازيتين لأن الاستقلال يعني ضمناً التخلص من عدد من الأنظمة العربية الحاكمة بسبب تبني الاستعمار الغربي لها. ومسؤولية الأمن تعني الخروج من تحت المظلة الأمنية الأمريكية وبداية عهد الانهيار الأمني لحكومات عربية عدة. ولهذا كان من المتوقع أن يفتح العرب أبواب دعايتهم السياسية ضد إيران على اعتبار أنها تسعى إلى الهيمنة على المنطقة العربية. لم يهن على أغلب أنظمة العرب التخلص من الهيمنة الأمريكية فعملوا على حشد الرأي العام العربي ضد إيران بدل أن يطالبوا بالاستقلال كما تطالب إيران. وحتى الآن لم بفسر العرب لماذا يخشون هيمنة إيران عليهم في حين لا أحد يمنعهم من أن يكونوا أقوياء وقادرين على الدفاع عن أنفسهم. وإذا وجد من يمنعهم فهي أمريكا وإسرائيل وليس إيران.
رابعا: إن لم تنجح الوسائل الإعلامية الإفسادية التي اتبعها العرب والأمريكان والصهاينة ضد إيران فالحرب هي البديل الذي يمكن أن ينجح. وهذا ما حصل. لقد ألبت أنظمة عربية مثل النظامين السعودي والأردني الرئيس العراقي صدام حسين ضد إيران مصورين له أنها ستقضي على نظام خكمه إن لم ينقض على نظام إيران الجديد. وبقوة الدفع الأمريكي ودول الغرب عموما، حرك صدام جيشه في حرب طويلة ضد إيران استنزفت الطرفين ماليا وعسكريا واستهلكت مئات آلاف الجنود العرب والإيرانيين. عاش الغرب كما عدد من الأنظمة العربية أياما جميلة وهم يرون العراق وإيران في حرب مدمرة أكلت الأخضر واليابس.
من الصعب أن ينكر أحد أن الثورة الإيرانية وضعت بصماتها على المنطقة العربية الإسلامية والمزاج السياسي للجمهور العربي. حركت الثورة مشاعر الناس ضد إسرائيل عندما قطعت العلاقات مع الصهاينة وحولت السفارة الصهيونية في طهران إلى سفارة فلسطينية. وتأثر العرب أيضا عندما قررت إيران دعم المقاومة الفلسطينية في لبنان وتبني المطالب الفلسطينية. وأيضاً اثرت إيران في نظرة العرب والمحيط عموما تجاه الولايات المتحدة، وعمقت وعي الناس بالأطماع الأمريكية في الثروات العربية والإسلامية عموما. وفوق هذا، ساهمت الثورة الإيرانية في نمو الوعي الثوري لدى الجماهير العربية، ورفع درجة الوعي لدى التنظيمات الإسلامية القائمة على الساحة العربية. لقد مثلت الثورة الإيرانية دافعاً ثورياً قوياً للتنظيمات الإسلامية في البلدان العربية للتحرك بصورة أفضل وأقوى في الشارع العربي.
كل ما تركته الثورة الإيرانية من بصمات على المنطقة لم يكن عنفياً وإنما كان انعكاساً تلقائياً لقدرة الإيرانيين على إسقاط مستبد فاسد وإقامة نظام سياسي إسلامي جديد. كانت الثورة الإيرانية أول نجاح حقيقي للفكرة الإسلامية على الساحة الإسلامية، ولم يكن من الممكن أن يحصل هذا دون تأثيرات جانبية على الشعوب المجاورة والحكام العرب. على الأقل انشغل الحكام العرب أثناء الثورة بريادة المساجد لإقامة الصلاة، وبعمل الولائم الرماضانية لرجال الدين حيث كانت الأحداث في إيران تجري في شهر رمضان. وبسبب هذه التأثرات المقرونة ببعض التصريحات من قبل رجال دين وسياسيين إيرانيين حول تصدير الثورة وجد حكام العرب مبرراً لاتهام إيران بعمل القلاقل في البلدان العربية.
صمدت إيران على الرغم من وطأة الحرب والعقوبات الأمريكية الثقيلة. لقد ساهمت أمريكا في إضعاف الثورة الإيرانية من خلال العقوبات، والتي كانت جزئياً بسبب هجوم الطلاب الإيرانيين على السفارة الأمريكية واحتجاز مئات الأمريكييين كرهائن لفترة طويلة من الزمن. لم يكن ذلك العمل حكيماً إذ أعطى مبرراً لأمريكا للإمعان في عدائها لإيران وللتعاون مع حكام العرب لإسقاط الثورة.
اتجهت إيران بعدما تعرضت له من عقوبات وحروب ودسائس نحو إنجاز أمرين في غاية الأهمية ومقلقين بالنسبة للغرب والعرب والصهاينة وهما الاعتماد على الذات اقتصادياً وتصنيع الاحتياجات العسكرية ذاتياً. عملت السياسات الغربية والصهيونية عبر الزمن على إبقاء العرب ومعهم بعض الدول الإسلامية بحاجة للمنتجات الغربية بخاصة المواد التموينية ومظلتهم الأمنية والعسكرية. لقد أصر أهل الغرب على إبقاء إسرائيل الأقوى عسكرياً القادرة على دحر الجيوش العربية منفردة ومجتمعة، وعلى إبقاء العرب ضعفاء اقتصاديا ومستنزفين مالياً وذلك بإفساد الأنظمة العربية بالمزيد. قررت إيران أن تخرج من الأزمتين الاقتصادية والعسكرية وذلك ببناء اقتصاد ذاتي يوفر المستلزمات الغذائية للشعب الإيراني، وتطوير التقنية العسكرية والمدنية التي تجعل إيران مستقلة في إنتاج الأدوات اللازمة للتصنيع والابتكار والإبداع.
التطوير التقني خطير بالنسبة للغرب وإسرائيل لأنه يعني الاستقلالية في إنتاج الوسائل، والرقي تدريجيا حتى تتطور تقنية إسلامية وعربية تتحدى التقنية الغربية. تطوير التقنية يعني الصعود نحو الاستقلال، والصعود نحو مواجهة التحديات بقوى ذاتية. هذا أمر يخيف إسرائيل لأن هيمنتها العسكرية على المنطقة ستصبح موضع شك، ويخيف أمريكا وأهل الغرب لأنهم لن يعودوا قادرين على استنزاف المنطقة مالياً من خلال بيع الأسلحة والمعدات الضرورية لتشغيل عجلات الإنتاج.
أعطت إيران جل اهتمامها للتطوير العلمي فاستقطبت العلماء، ودعمت علماءها في الداخل الإيراني وأقامت مراكز البحوث المتطورة والجامعات الحديثة التي تضاهي الجامعات العالمية، ونشط البحاثة والعلماء في الاكتشاف، وطوروا التقنيات المناسبة للاستفادة من اكتشافاتهم العلمية. بدأت إيران تنهض علمياً وتقنياً وتقدم منتجات صناعية وزراعية جديدة كل عام. لقد سارت حثيثاً نحو الاعتماد على الذات، وتحولت من بلد مستهلك للعلوم والتقنية إلى دولة منتجة لها. وبرغم الحصار الذي ضرب عليها والعقوبات، استطاعت تطوير ما يلزمها من تجهيزات تقنية كان على رأسها التجهيزات الضرورية لإنتاج الطاقة النووية للأغراض السلمية. ومن الناحية العسكرسة، لم تعد إيران بحاجة إلى الأدوات القتالية الغربية وباتت تصنع أسلحتها البرية والبحرية والجوية والفضائية وفق ما يتناسب مع رؤيتها. وانتقلت إيران من دولة مضطهدة تتعرض لمختلف أنواع العقوبات إلى دولة ذات هيبة إقليمية وتسير قدماً نحو امتلاك الهيبة العالمية.
على الصعيد الإقليمي، تنفست المقاومة العربية الصعداء في مواجهة إسرائيل بفضل الدعم الإيراني. خسرت إسرائيل أربع حروب متتالية ضد المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وتمكنت المقاومتان من تطوير قدراتهما العلمية والتقنية لتطوير أسلحتهما أو بعضها ذاتيا. لقد ذاقت إسرائيل مرارة الفشل العسكري مرارا، الأمر الذي عجزت عن تجريعه الدول العربية لإسرائيل.
وطورت إيران قدراتها الصاروخية التي ما زالت تؤرق أهل الغرب وإسرائيل. انطلقت إلى الفضاء، ومدى صواريخها يتمدد سنة بعد أخرى، وهي تملك الآن القدرة على إنتاج صواريخ حاملة للرؤوس النووية، والقدرة على إنتاج القنبلة الذرية. ومن الوارد جدا أن تتمكن قريبا من إنتاج صواريخ عابرة للقارات. لقد أعطت العقوبان أكلها على الساحة الإيرانية فتحررت إيران من استعباد الآخرين لها من خلال الغذاء والسلاح.
طورت إيران كل هذا بذكاء كبير. كان عليها التكتم عما تصنع حتى لا يقتل أهل الغرب طاقاتها في مهدها. اشتغلت بهدوء وصمت، ولم تكن تتحدث عن قدراتها إلا بعدما أصبحت قادرة على الدفاع عن نفسها. وأظهرت إيران ذكاء شديداً أيضاً إزاء محاولات العرب لإذكاء المزيد من الفتن المذهبية في المنطقة. لقد تعاملت مع الفتن بهدوء وروية وبقيت خارجها. حاول العرب صناعة فتنة مذهبية في العراق لكي يجروا إيران إليها. وكذلك فعلوا في لبنان والبحرين، وهم يفعلون الآن في اليمن. لكن إيران لم تتدخل عسكريا حتى لا تنزلق أقدامها. أراد العرب استنزاف إيران فاستنزفوا أنفسهم بأيديهم.
ما زالت أمريكا حتى الآن تعادي إيران وتقيم ضدها الحواجز وترفع من حدة العقوبات من أجل إسرائيل ومن أجل إبقاء هيمنتها على الخليج ونفطه. وحكام العرب لم يتعظوا حتى الآن وما زال الأمل يحدوهم بهدم الثورة الإيرانية. وكم من الغيظ أصاب هؤلاء الحكام عندما فشلت إسرائيل أمام المقاومة. لقد قدموا ما أمكن من الدعم الأمني لإسرائيل لإلحاق هزيمة بحزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، لكن عبثاً. المتكالبون على إيران ما زالوا يحاولون ويوحدون الجهود لهزيمة العدو المشترك. إسرائيل وحكام عرب والولايات المتحدة يحاولون، لكن لا يلوح بالأفق أن محاولاتهم للقضاء على الثورة الإيرانية ستنجح. وكل المؤاشرت تشير إلى أن تسارع التقدم الإيراني في السنوات المقبلة سيكون أكثر بكثير من تسارع تقدمها في السنوات المدبرة، وأن إيران قد وصلت إلى مستويات اقتصادية وعسكرية واجتماعية ما يحول دون نيل الأعداء منها.
نحن العرب نعاني من مشكلة مزمنة وهي الإصرار على ضعفنا والبحث المستمر عن سيد لنا يحل لنا مشاكلنا ويوجهنا ويستمر في إهانتنا. يبدو أننا استدخلنا الهزيمة والذل ولم نعد قادرين على العيش بدونهما. مشكلتنا مع إيران أننا نكره الأقوياء الداخليين. نحن ننحني أمام قوى خارجية لكن عداءنا الداخلي ضد المبدعين والمبتكرين والأقوياء بلا حدود. نحن نقتتل لسنوات طويلة منذ داحس والغبراء حتى حلب والرقة والموصل واليمن، لكننا سرعان ما نولي الأدبار أمام إسرائيل دون أن ينطبق هذا على المقاومة. إيران تريد أن تكون قوية وتخرج من تحت النير الأمريكي. بالنسبة لنا نحن العرب، هذا جنون ولا يجوز، ويجب أن تبقى إيران تحت النير كما نحن وإلا ألفنا ضدها كل مقولات الكفر والمجوسية وعبادة النار،الخ. وإذا كنا نخشى هيمنة إيران علينا فإنه كان بإمكاننا توظيف مئات مليارات الدولارات التي أنفقناها على شراء الأسلحة الأمريكية لإقامة قاعدة علمية وتقنية لتطوير الأسلحة النووية التي تمكننا من الدفاع عن أنفسنا ضد أي قوة في الأرض تحاول الاعتداء علينا. نحن نريد أن نبقى ضعفاء ونلهث باستمرار وراء شهواتنا تاركين أمتنا وشعوبنا في العراء تعاني الجوع والفقر والمرض والجهل.
وفي النهاية لا بد من الإشارة إلى أن أهل الغرب وإسرائيل لن يتوقفوا عن عداء إيران بخاصة أنها مرشحة لقيادة العالم الإسلامي كله، ولهذا عليها دائماً التفكير بإنتاج أسلحة رادعة للدول العظمى، ومن المفروض ألا يكون الاتفاق النووي مع الدول الاستعمارية نهاية المطاف. هذا عالم للأقوياء، ومن ارتضى الضعف لنفسه تدوسه الأقدام.
عبد الستار قاسم* كاتب فلسطيني