كانت موريتانيا مهددة بتغيير علمها ونشيدها الوطني، نحو المجهول، في جو قد يشجع الانقسام ويحرك مطالب أخرى لتمثيل شرائح، ربما عبر الرمز الوطني "العلم"، الذي فتح النظام القائم الباب على التلاعب به، في فترة يسود فيها نزاع سياسي متنوع.
كما كانت موريتانيا مهددة بتحصين كل معتد على الشأن العام، عبر إلغاء المحكمة السامية وتكثيف الشروط المانعة لمحاسبة الرؤساء، ليفعلوا ما شاءوا ويخرجوا محصنين دستوريا.
كل هذه التهديدات انحسرت على الأقل، إن لم نقل زالت، عندما صوت 33 شيخا ضد هذه التعديلات الدستورية المقترحة.
ومهما قيل عن إمكانية عرض التعديلات الملغية أو بعضها بصيغة أخرى وترقيم جديد على البرلمان، فإن ذلك كله لا يخلو من التعسف القانوني، كما أن عرض هذه التعديلات على الاستفتاء الشعبي قد يدخل النظام في ورطة أكبر، لأن الاستفتاء أصبح أكثر خطرا من ذي قبل، وباختصار غير مضمون التصويت بنعم، لأن الموريتانيين عموما، وحتى الموالين منهم، تنفسوا الصعداء نسبيا، بأمل ولو محدود في الديمقراطية، من خلال تصويت بعض الشيوخ بلا.
فـ"لا" أصبحت حاضرة في الحساب الإنتخابي بمستوى أكبر، بعد ليلة الجمعة الموافق لـ17 مارس2017.
ولا يستبعد كثيرون وجود بعض الشخصيات العسكرية الفاعلة وراء تصويت بعض شيوخ الموالاة، وإن كان هؤلاء لم يستمرؤوا إلغاء غرفتهم، فلم يكن لهم من بد إلا التصويت بلا، إلا أن صيغة العلم المقترح وتهديد ظهور دولة بعلمين، ربما دفع بعض أجنحة المؤسسة العسكرية للتحرك خفية، من خلال بعض الشيوخ، لسد الباب أمام محاولات ولد عبد العزيز لمزيد من تعقيد المشهد السياسي، المعقد المتأزم أصلا.
لقد نجح الشيوخ الرافضون للتعديل في إبلاغ الرسالة لعزيز بوصول حكمه لمرحلة الإفلاس، فهل يقبل أم يدفع الموريتانيين عموما لمزيد من التعبير المتنوع عن مدى رفضهم لهذا النظام الفاشل واستعجالهم لبديل منقذ.
ليلة الجمعة ،عندما نجح الشيوخ في قلب الطاولة على مقترحات عزيز الدستورية، ساد إرتياح غريب واسع وبادر خبير دستوري كبير لدعوة عزيز ضمنيا للإستقالة هو وحكومته، لكن هذا النظام الإنقلابي الإستبدادي لا يعرف هذه اللغة القانونية، وتذكيره بنموذج "ديكول" محض تعب وتمنى مجنح، وفي المقابل لا معنى لما يقترح بعض أنصار عزيز من تعسف القانون والتجرئ مرة أخرى على إقحام هذا التعديل دون وجه سليم من الناحية السياسية والقانونية.
فلله الحمد فشل عزيز في تمرير هذه التعديلات الدستورية المربكة، فهل يفهم الرسالة قبل بروز رسائل أخرى أكثر إحراجا وتعرية.
ومهما كانت الأسباب التي دعت بعض شيوخ الموالاة للتصويت بلا، ضد المقترح الدستوري، فإن ذلك يعتبر انتصارا للكرامة على حساب الخنوع والإستسلام، وخصوصا بعد التعرض لمستوى عال من الإبتزاز والضغط، عبر حفلات العشاء والإستدعاءات الجماعية والفردية والرشاوي الصريحة، التي أكدت عمق التجرد من القيم والحياء.
فسمعنا ميمنة وميسرة عن توزيع الأراضي والتسهيلات المتنوعة، دون أن يمنع ذلك من الحديث في ضفة أخرى عن إكراميات ولد بوعماتو وتدخله لهزيمة ابن عمه بأي ثمن، وهو ما حصل بالفعل في هذه الحالة على رأي البعض.
لقد إتضح من خلال أجواء الإبتهاج بهذا الإجهاض الناجح للمقترحات الدستورية المثيرة، استعجال الموريتانيين على إختلاف مشاربهم، للخروج من عنق الزجاجة والتعاطي مع بدائل جديدة، لتجاوز حالة الإنسداد المطبقة.
فهل ينتبه النظام القائم لهذا التململ الصارخ، أم تفاجئه الساحة الحبلى بالسيناريوهات المختلفة بما لا قبل له به.
كما كشف الرفض الأخير، على مستوى مجلس الشيوخ، ضعف الآلة الإعلامية والسياسية لهذا النظام.
فالحزب الحاكم والجهة الرسمية عموما، لم تتمكن حتى الآن من التعليق على الحدث، إنتظارا لفتوى وذوق ولد عبد العزيز، وهذا يؤكد مستوى سيطرة الرأي الواحد على هذا النظام، فلا أحد يمتلك الشجاعة لمجرد التعبير، لأن الموضوع حرج وحساس.
ومن وجه آخر لا يتمتع النظام بموالين أوفياء إعلاميا وسياسيا، قادرين في الوقت المناسب والحساس، على الدفاع عن توجهات هذا النظام.
مما إضطر مكلف بمهمة ومستشار سابق للدخول في العراك الإعلامي الميداني، حتى لا يقال غابوا كليا.
فتمنى الكنتي الموت لعزيز من حيث لا يشعر أو يقصد ربما، وبالغ محمد الشيخ في الطنطنة وكيل المديح الزائد الفاضح بإيجاز.
مشهد على العموم يشهد بهشاشة الديمقراطية الموريتانية وضعف مكاسبها، وعدم تماسك الموالاة، وعدم قدرة المعارضة على اقتناص اللحظة المناسبة بأسلوب سلمي جريئ مدروس، فبقي الناس يتفرجون على الإعلام، منتظرين بطريقة سلبية، لما قد يجد ويطرأ دون بذل جهد، أما الشيوخ رغم انتهاء صلاحيتهم على رأي البعض وسدهم فقط الفراغ الدستوري على مستوى الغرفة العليا، فقد حركوا الراكد بهذا الرفض المشرف المثير للتفاؤل.
فهل ينتبه ولد عبد العزيز لهذه الرسائل الاحتجاجية، الرافضة لسياساته الأحادية، أم يتمادى في الوحل؟؟.
بقلم: عبد الفتاح ولد اعبيدن