هل مازالت الأرض ” بتتكلم عربي ” كما كان يقول سيد مكاوي، أم أن كل ما صغناه من عوامل مقتلنا وانتحارنا وخيباتنا لن يلوث ترابنا وارثنا وبوح مقاومتنا أمام ماتم رسمه من مشاريع هدامة ومسارات ومنعطفات غاية في الخطورة، لن نجني في منتهاها إلا الأُكل الخمط وجبال من الآلام واللوثات.
تمر ذكرى يوم الأرض, والواقع العربي أشد مرارة، والمفرزات الهدّامة للاقتتال الطائفي والمذهبي وتأجيج نار الفتن، تأكل كل جميل ٍ فينا, وغياب الوعي يذبحنا وانحطاط خطابنا وتناحرنا، يقتل أوطاننا وينسف قيمنا ويسرق حلماً يسيراً بوحدتنا، لطالما تكاثرت كل عوامل الاجتماع والالتقاء في طبيعة ومضمون بنيتنا العربية، لكننا هرولنا خلف ما يفرقنا وصرنا حطباً لنيران عدونا وكرات تتقاذفها الأرجل الدولية. لم تعد تقتصر ذكرى يوم الأرض بدلالته الوطنية والقومية على الاحتجاج ورفع الصوت عالياً لمصادرة قوات الاحتلال الاسرائيلي آلاف الدونمات والأراضي التي هجّر أصحابها منها بآلة قتله وإجرامه بل باتت الذكرى اليوم أكثر إيلاماً بواقعٍ أشد قسوة، في ظل مصادرة القرار الرسمي العربي برمته، يفاخر فيه بعض القادة العرب علناً بعلاقاتهم الدبلوماسية والتجارية مع الإسرائيلي، بل ويستفيض الأخير في تظهير تحالفه المتين مع العرب ويعلن على الملأ كيف تهرول بعض الشخصيات الرسمية العربية بالجملة والمفرق إلى تل الربيع ( تل أبيب بالتسمية الإسرائيلية) لمواجهة ما يصفه المجتمعون بالتحديات المشتركة المتمثلة بالخطر الشيعي وتدخل ايران في شؤون المنطقة.
نعم نؤمن بأن ما سمي ربيعاً كان هدفه الرئيس هو إبعاد الأنظار عن القضية الفلسطينية البوصلة الحقيقية لأمة العرب، وتالياً لزوم أن يتبدل سلم الأولويات وأن تتكاثر سوء المفرزات، يغدو معها طريق القدس ماراً بحلب والزبداني وحمص، ولكن قلناها مراراً وتكراراً ونعاود إعلانها اليوم في هذه الذكرى أن طريق القدس يبدأ من الجليل والجليل فقط، هذا الطريق الذي كان قد وضعه الحزب كاستراتيجية مواجهة في حال أي عدوان اسرائيلي على لبنان، واليوم اختلفت المسارات، ونجح عدونا في حرف البوصلة أكثر فأكثر وصارت مواجهة الارهاب وداعش أولوية في وقتٍ لم يكن فيه أي وجود لهذا الغول الداعشي، ومع ذلك بقيت القضية منسية، وفي ذروة انتفاضتها المباركة وصراخ أولادها وشبابها الذين يُقتلون بدم بارد، ظلت وحيدة وغابت عنها العروض، ولم نر حزباً يرسل بمقاتليه إلى داخل الجغرافية الفلسطينية، ولا قوات برية لدولة مقاومة، ولا مستشارين عسكريين يجوبون الداخل الفلسطيني، مع ايماننا أن دولاً بعينها دعمت المقاومة الفلسطينية في حربي غزة لكننا نشير هنا إلى التشوه الحاصل والمسار الموغل في الانحراف الذي نجح عدونا في توجيهه، ورسم شذوذه، وكيف استطاع إشغال خصومه بسيل جارف يكفل ارتياحه وسروره في رؤية مشهدنا الطافح باستنزاف دمائنا وشبابنا ومواردنا.
نعم ننفض أيدينا من أعراب باتو في حضن الإسرائيلي يشربون نخب ذبح فلسطين بالمال العربي، لكننا نتوق لأن يفوح عطر هذا التراب ولأن تتنفس الأرض شذىً مختلفاً، تطرب معها المسامع بدوي صفارات الإنذار في أراضينا المحتلة وتتلاحم معها الإردات انتصاراً لبوح الأرض ونداءاتها، واستجماعاً لهويتنا الوطنية وقبل أي شيء المقاوِمة، فإذا كانت سورية الحلقة الذهبية في محور ” الممانعة ” كما وصفها غير مرة مستشار الامام الخامنئي علي ولايتي، فإن فلسطين الحلقة الماسية لتلك السلسلة وهي وحدها من يضفي على الانتصارات ألقاً وبهاء فريدا وعند أعتابها تعود البوصلة لوجهتها الحقيقية، وتخط عناوين الرفعة والكرامة والسيادة كلماتها بأحرف من نور، فمهما غابت الهوية العربية، لن تتكلم هذه الأرض إلا العربية.
الدكتور محمد بكر* كاتب صحفي فلسطيني مقيم في ألمانيا