الوطن شجرة طيبة لا تنمو إلا في تربة التضحيات وتسقى بالعرق والدم- و. شرشيل
رغم وجود خلاف كبير بشأن ملاءمة النقد السياسي وأهميته في الحضارات، وبخاصة في المجتمعات الديمقراطية من ناحية و أن الذين يجزمون بأهميته الكبيرة يؤكدون أن النقاش السياسي المنضبط و المسؤول و الحمل لمشاريع وطنية كبرى يُحدِث تنوعًا في الآراء ويعززه، الأمر الذي يلعب بالتالي دورًا مهمًا في الديمقراطية الحقيقية. و أما التيار المنتقد لهذه الفلسفة فينطلق أصحابه جازمين ـ و هم كثر ـ من أن عامة المواطنين العاديين الذين يفتقرون برأيهم للمصادر والقدرة على استيعاب الآراء التي تنطبع بمستوى من الثقافة يسوغ أخذها على محمل الجد. و يستنتج أهل هذا التيار أن كثرة هذه الآراء والترويج النفرط لها لا يسفر إلا عن ارتباك وتعقد في الشؤون السياسية التي يمكن فهمها بسهولة شريطة امتلاك القدر الكافي من المعرفة بالحقائق، أو ينبغي عدم مناقشتها سوى من قِبل مَن يملكون الذكاء الكافي لإعطائها كامل حقها.
و مهما يكن فإن مراجعة التجربة السياسية بمعنى المراجعة النقدية تُعَد من أهم العمليات التي يفترض بالأحزاب السياسية القيام بها عند عبور المراحل و خلال المرور بجميع المحطات التي من أهمها المؤتمرات إلى جانب عديد سياقات العمل اليومي المتنوعة.
و الحقيقة المؤسفة، بل المرة، هي أن أكثرية الأحزاب السياسية في هذا البلد، الذي عرف تشكيل الأحزاب في الأربعينات من القرن المنصرم تحت نير الاستعمار الفرنسي، لم تختبر يوما هذه المراجعة الصحية بل إنها، و كما بينت التجربة، ترفض مبدأ قيامها و ستنكر أي ملاحظة حول مواقفها و تأنف حتى كل موقف نقدي لسياساتها و ممارساتها و الأخطر من ذلك أنها تعتبر هذا الموقف جزء من عملية معادية دبرت لاستهدفها و إضعافها.
لقد بات من معلوم بداهة أن أي حزب سياسي لا يواجه ذاته و لا ينتقد تجربته و يمحصها هو حزب لا يستحق البقاء لأنه كشف عن ضعف ثقته بنفسه و خلو مسيرته من التماسك فضلا عن كونه فقد حيويته و قدرته على التطور و التجديد.
و من الملاحظ في هذا السياق المختل للعملية السياسية في إطار الأحزاب أنه بعيدا عن القبول بضرورة استيعاب معطى النقد، و العمل به لصالح العطاء السياسي، كلما دخل حزبٌ من الأحزاب التي تُعتبر الوازنة بشكل أو بآخر"مرحلةَ النقد" - على أيدي الخيرين فيها الذين يحرصون، بتبني النقد خيارا سياسيا استراتيجيا، على أن تَستمر في أداء رسالتها النبيلة ـ تدب الخلافات و يبدأ التفكك و الانشطار.
وهي التجربة بهذا الوجه المرير التي عرفتها السياسة في هذه البلاد على مدار الثلاثة عقود الماضية و ما زالت تعيش على وقعها المربك حيث تظل أغلبية الأحزاب المشخصنة و الموصومة بالطابع القبلي و الجهوي، و المؤدلجة مرحليا، و الانتهازية اللحظية تنقسم حول نفسها على خلفية الخصومات البيزنطية إلى حد أنها باتت تتمايز بالأرقام في بيئة أضحت هي الأخرى أقرب إلى "مكب" للأحزاب الخائرة منها إلى "نسيج" مشترك حتى إن اختلفت فيه الألوان و تباينت الخيوط في أطوالها إلا أنها جميعها تتعايش و تنافس لتعزيز المكسب الديمقراطي و تنمية البلد.
ففي حين يمضي السياسيون، في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ البلد، في خصوماتهم على الثانوي من الأمور و الاهتمامات الذي تغلب عليه أيضا النظرة الفردانية المنحسرة في مطالب مادية ضيقة المحتوى، فإن الأكثر أهمية من اهتمامات البلد بل و الأوجب معالجة و إلحاحية لتصور التسويات يظل في دائرة المستبعد المستهجن... نغمة نشاز تضيع في أتونها أحلام الشعب بل و آماله في ضبط عملية تنموية يحتاجها لضمان وجوده فبقائه في عالم يتحول بسرعة إلى نادى مغلق للأقوياء... سياسة تنموية إن تم رسمها بإجماع الضمائر الوطنية الثاقبة و حبك مفاصلها اعتمادا على خيرات و ثروات هذا البلد الهائلة لأنفتحت الأبواب حتما واسعة أمام قيام الأحزاب الحقيقية التي تتنافس ببرامجها القوية و خطاباتها المفعمة بإعادة ترسيخ مفهوم المجتمع المرتبط أساسا بخاصية التقاسم المتبادل لدى أفراده وجماعاته مجموع علاقاته وقيمه ومصالحه وحاجياته و كفاءات أفراده وقدراتهم و مواهبم من شتى الأنواع والمجالات فيما بينهم باعتبار هذه الخاصية لازمة له و حاجة مستمرة عبر الزمن.
فهل يعي السياسيون هذه الحقيقة التي يشكل العمل على ترسيخها و بمقتضاها و إملاءاتها في صميم الممارسة السياسية؟ وهل يدركون على لسان شرشل أن الوطن شجرة طيبة لا تنمو إلا في تربة التضحيات وتسقى بالعرق والدم.