«الممانعون» العرب، وهم رهط المؤمنين بأنّ ما تشهده سوريا منذ سبع سنوات ليس انتفاضة شعبية، بل مؤامرة تستهدف «محور الممانعة» ضدّ إسرائيل وأمريكا والإمبريالية العالمية؛ قرأوا الهجمة الصاروخية الأمريكية على مطار الشعيرات ـ أسوة بالغارات الإسرائيلية العديدة ضدّ مواقع للنظام ـ لا كمَن عثر على ضالة يتعكز عليها، أياً كان النخر في بنيانها، فحسب؛ بل كمَن وجدها… على غرار أرخميدس!
بعضهم يرفع العقيرة هاتفاً، وبعضهم الآخر يشقّ الحنجرة صارخاً: أترون؟ ألم نقل لكم إنّ أمريكا، مثل إسرائيل، شريكة في المؤامرة ضدّ نظام الممانعة والمقاومة والصمود؟ ألا يتضح الآن أنّ أمريكا ودوائر الإمبريالية العالمية كافة، وما تبقى من استعمار قديم، وما يتجدد ويتوالد من استعمار جديد… إنما تتكاتف خلف هذه الضربة الصاروخية الأمريكية، وكلّ غارة إسرائيلية، وبالتالي تساند «العملاء» و«المندسين» و«الإرهابيين» و«الجهاديين» المناهضين للنظام السوري «الممانع»؛ استكمالاً للمؤامرة إياها، التي تستهدف إخراج البلد من معادلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وتركيع قيادته؟
والحال أنّ عقود التاريخ السياسي العربي المعاصر، وربما الحديث بأسره أيضاً، لم تشهد مقداراً من الادقاع والتهافت والابتذال، فضلاً عن القحة وانحطاط التفكير وبذاءة الحجة واستنقاع العقل؛ مدانياً لهذه المنظومة السياسية ـ الأخلاقية التي يتمرّغ فيها رهط «الممانعين» العرب. فهؤلاء لا يرون أية إزدواجية في معيار تصفيقهم لنظام «يمانع» ضدّ إسرائيل والإمبريالية، لكنه سحب دباباته ومدفعيته الثقيلة وقوّاته الموالية من الجولان المحتلّ، لتحارب السوريين في قراهم وبلداتهم ومدنهم.
وحين تعربد قاذفات إسرائيل، على هواها، مراراً وتكراراً، فوق مراكز الأبحاث ومستودعات السلاح والقصور الرئاسية؛ فإنّ قاذفات النظام، ومنظوماته الصاروخية ومدفعيته الثقيلة، تردّ بالفعل، ولكن كما يلي: تستدير إلى الداخل السوري، فتستهدف المخابز والمشافي والجامعات ومآذن المساجد وقباب الكنائس والجسور الأثرية.
لا يتذكر الرهط، إذْ يتعمد معظمهم تناسي، التصريحات التي نسبتها صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية إلى رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد وتمساح الاستثمار والمال والأعمال الأشرس؛ بصدد العلاقة الوثيقة بين استقرار النظام السوري، واستقرار إسرائيل، وقوله بالحرف: «إذا لم يتوفّر استقرار هنا، فلا سبيل إلى استقرار في إسرائيل». كانت تلك الأقوال قد صدرت في الأسابيع الأبكر من انطلاق الانتفاضة الشعبية، وكانت تعيد التذكير بما يعرفه الشعب السوري وجميع شعوب المنطقة: أنّ النظام السوري «الممانع»، هو ذاته النظام الذي ظلّ ضامناً لاستقرار إسرائيل… ذاتها، التي «يمانع» النظام ضدّها! كما يتناسون أنّ تلك الأقوال قيلت بلسان صيرفي الفساد والاستبداد الأوّل، لكي تستجدي إسرائيل، وتغازلها، وتستجير بها.
ويحلو للرهط أن يتناسى، أيضاً، الخدمات الممتازة التي أسداها الأسد الأب، مثل الأسد الابن، للمصالح الأمريكية والغربية في المنطقة، ولأمن إسرائيل في المقام الأوّل. وتلك خدمات لم تكن تنتهي عند استمرار سلام الأمر الواقع الذي ظلّ يسود الجولان المحتلّ، منذ اتفاقية سعسع سنة 1973؛ أو التزام النظام بمدوّنة السلوك الحسن في ضبط الحدود السورية ـ العراقية، لصالح الاحتلال الأمريكي. كما أنها خدمات أبعد أثراً من حرب النظام ضدّ الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وحصار المخيمات، أواسط السبعينيات؛ أو التفرّج على الغزو الإسرائيلي للبنان، سنة 1982، رغم استهداف القوّات السورية مباشرة، واستشهاد ضباط وأفراد كثر. وما خلا المساندة اللفظية لـ»حماس»، والاتجار السياسي والمالي بإمدادات السلاح الإيراني إلى «حزب الله»، فإنّ الوريث واصل نهج أبيه في خطب ودّ الإمبريالية العالمية، والبحث عن أقنية التفاوض مع إسرائيل، سرّاً أو علانية أو عبر الوسطاء.
طريف، إلى هذا، أنّ العداء لأمريكا هو معيار «الممانعين» في الحكم على براءة النظام السوري من دماء السوريين، وهو الدليل على صحة نظرية المؤامرة ضدّ «محور الممانعة»، ونقض انتفاضة الشعب السوري ضدّ نظام الاستبداد والفساد والمزرعة العائلية. فكيف، والحال هذه، يُطبّق المعيار ذاته على «جبهة النصرة»، المعادية لأمريكا بدورها، والموضوعة على لوائح الإرهاب الأمريكية الرسمية؟ أهي «ممانعة»، بدورها؟ وإذا كان «الممانع» يغفر للنظام السوري جرائم الحرب التي يرتكبها كلّ يوم ضدّ الشعب السوري، بذريعة معاداة أمريكا، فما قوله في ما تقترفه بعض كتائب «جبهة النصرة» من انتهاكات وجرائم؟
وذات يوم غير بعيد، تناوب الأسد الابن؛ مع حسن نصر الله، الأمين العام لـ«حزب الله»؛ واللواء حسن فيروز آبادي، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية؛ وأحمد جبريل، الأمين العام للجبهة الشعبية ـ القيادة العامة؛ تناوبوا، وسواهم من المطبّلين المزمّرين، على تبشير العباد بأنّ ساعة تحرير الجولان المحتلّ قد دقت، وانبلج فجر «المقاومة» في سهوله وهضابه. ولقد انصرم أسبوع على تلك الحملة اللفظية ـ التي تجوز فيها صفة «البلاغة الشعواء»! ـ ثم انقضت أشهر، وسنوات؛ فلم يشهد شبر واحد من أراضي الجولان المحتلة، الشاسعة الواسعة المترامية (قرابة 1200 كم²)، إطلاق طلقة واحدة في اتجاه قوّات الاحتلال الإسرائيلية، سواء من بنادق «المقاومين» المتطوعين الأشاوس، عرباً وعجماً على حدّ سواء، أو من دبابات النظام ومدفعيته وأسلحته الصاروخية.
ومع ذلك: «وجدتها!»، يهتف «الممانع» جذلاً، إذْ يتشبث بالضربة الصاروخية الأمريكية الأخيرة؛ فيغضّ أرخميدس طرفه، استحياء بعد العجب والحيرة!