لا تحتاج مصر الكنانة إلى الاستماع إلى الدروس التي ينبري الكثيرون لإلقائها على مسامعها بمناسبة تعرضها لمحنة الجنون الجهادي التكفيري الإرهابي، فبلد حضارة السبعة آلاف من السنين أثبت مرارا أنه قادر على مواجهة محن أكبر وخيانات أحقر، بالحكمة والصبر والتسامح والتعاضد المسيحي الإسلامي، ليخرج منها معافى مرفوع الرأس.
لكن دعنا، نحن مجتمعات مجلس التعاون الخليجي، نطرح على أنفسنا سؤالا تثيره مأساة موت الأبرياء من شعب مصر الغالي، وهم يناجون رب العالمين. السؤال يتعلق بمقدار ما نحمل من مسؤولية تبني ونشر فقه إسلامي متزمت، يحكمه تاريخ الصراعات، ويغرق الأرض العربية في عبثية معاداة أصحاب الديانات الأخرى، ويقرأ القرآن الكريم من خلال فهم مجتهدين عاشوا في زمن غير زماننا، وواجهوا قضايا وتحديات ما عادت جزءا من حياتنا.
ألم ندرب الدعاة في بعض جامعاتنا ومعاهدنا، ونصدّر خطباء المساجد إلى كل بلاد العرب والإسلام والعالم، ونطبع ونوزع ملايين الكتب، وننشئ عشرات المحطات التلفزيونية الفضائية، فنساهم بذلك في نشر فكر المغالاة والتعصب ورفض المجادلة بالتي هي أحسن، ومن ثم في توزيع تهم الزندقة والكفر، دون روية ودون تقوى الله الغفور الرحيم العادل؟ ولم يتم كل ذلك فقط من قبل بعض الجهات والمؤسسات الرسمية، وإنما ساهمت أيضا جهات أهلية وأفراد موسرون، سواء بقصد أو بغير قصد، في دعم ترسيخ خطاب ديني حامل للكثير من وجهات النظر الفقهية الخاطئة.
وعلى الرغم من أننا عرفنا منذ بداية تكون «القاعدة» في الثمانينيات من القرن الماضي أننا أمام أفراد وجماعات لديهم الاستعداد لقلب ذلك الخطاب الفقهي إلى خطاب سياسي عسكري ميليشاوي بالغ التطرف والقسوة والجهالة، إلا أننا، كمجلس تعاون ذي مصير مشترك، لم نتنادى لوضع استراتيجية شاملة واحدة لمواجهة ذلك التيار.
كان من المفروض الاتفاق على تغييرات ضرورية في تدريس مقررات الدين الإسلامي في المدارس والجامعات، وإزالة كل ما يدعو إلى العنف والتصلب الطائفي ومعاداة غير المسلمين. كان ضروريا الاتفاق على وضع خطوط حمر لا يتخطاها الخطاب الديني في المساجد والحسينيات والمنابر الاجتماعية الدينية. كان ضروريا وضع ضوابط على الخطاب الإعلامي الديني عبر كل وسائل الإعلام، وعلى الأخص الإعلام التخصصي الديني. كان ضروريا أن تقوم جهات التشريع بصياغة قوانين تحرم ممارسة كل أنواع الشطط في الفكر والممارسة والتنظيم الديني، وتجعل من الانخراط في اللعبة الطائفية وفي ادعاءات احتكار التحدث باسم الله في شؤون الدنيا والخلق، جرائم تحال إلى المحاكم ويعاقب عليها القانون.
لكن لم يحدث من كل ذلك العمل الجماعي المشترك شيء، وترك الأمر لكل دولة أن تقرأ المشهد الجديد بفكرها الذاتي، وتقاوم سلبياته بإمكانياتها الذاتية. فكانت النتيجة أن تضاربت المصالح وتضاددت الخطوات وحيَد قرار هذه الدولة قرار تلك الدولة، الأمر الذي فتح ثغرات يدخل منها كل صاحب شعار متطرف مجنون.
هنا يحق للقارئ طرح السؤال التالي: لماذا الحديث فقط عن دول مجلس التعاون؟ ألم ترتكب كل الدول العربية الأخرى، بل كل الدول الإسلامية، الأخطاء نفسها والإهمال نفسه تجاه التراث الفقهي والتاريخي المتشدد والمتزمت والمشوه لدين أعلن منذ البداية شعارات التسامح والحرية، «لا إكراه في الدين» (البقرة الآية، 256)، «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»(الكهف، آية 29)؟ الجواب هو بالطبع «نعم»، وبالطبع بصيغ وظلال متفاوتة.
ومع ذلك لتكن لدينا الحصافة والشجاعة للقول بأن ما ميز ولا يزال يميز دول مجلس التعاون، هو توفر ثروة بترولية كبيرة مكنت من تأسيس وسائل نشر ديني وإعلامي وثقافي هائلة. ولم تتوفر الثروة فقط في يد جهات رسمية، وإنما توفرت في أيادي جهات أهلية كثيرة وأيادي الألوف من الأفراد الأغنياء المتبرعين. ولا حاجة للتذكير بالأعداد الكبيرة للمحطات التلفزيونية والإذاعية الدينية، وبالألوف من الدعاة، وبألوف المدارس الدينية التي ما كان لها أن توجد وتنتشر لولا توفر الدعم المالي السخي.
لقد كان بإمكان تلك النخوة الدينية وكل ذلك الجهد الدعوي أن يبني ثقافة إسلامية مبهرة، تتميز بإعلاء قيم العدل والقسط والميزان والتسامح والأخوة الإنسانية والمجادلة الحسنة والرحمة الربانية، بدلا من نشر مشاعر الكراهية الطائفية في ما بين المسلمين والكراهية الدينية في ما بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، بل وتكفير الأنظمة والمجتمعات والشعوب العربية والإسلامية.
القيام بنشر الإسلام، كقيم وفضائل وحرية إنسانية ودعوة للعقلانية وتعارف في ما بين الشعوب والنبذ التام لكل العصبيات الضَيقة، كان يمكن تحقيقه لو بنيت استراتيجية شاملة لمواجهة ما بدا واضحا منذ البداية، من أنه رأس عواصف جهادية تكفيرية عنفيه مقبلة، تحمل معها خراب البلدان ونشر الموت وتشويه الدين ووضع الدين الإسلامي موضع اللوم والمساءلة وخطر التهميش.
مازال لدى مجلس التعاون من الوقت والمال والعقول الحكيمة ليساهم في تصحيح مسار فقهي عام يخجل منه نبي الإسلام ولا تباركه عدالة رب العالمين.
د. علي محمد فخرو
كاتب بحريني