كانت السابقة ستُسجّل على الفور، واضحة وساطعة وفريدة، لو أنّ حملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية انطلقت رسمياً، دون المرور على… المسألة اليهودية (في الإطار الأعرض)، ومسؤولية فرنسا الدولة عن ترحيل اليهود إلى معسكرات الهولوكوست (في الإطار الأخصّ). وهكذا انفتح الملفّ بلسان مارين لوبين، مرشحة «الجبهة الوطنية»، يمين فرنسا المتطرف؛ حين برأت البلد (الشعب والدولة، معاً) من تهمة اعتقال وتجميع، ثمّ ترحيل، أكثر من 13 ألف يهودي، سنة 1942، بناء على أوامر سلطات الاحتلال النازية.
جدير بالتنويه، بادئ ذي بدء، أنّ لوبين لم تخرج، في هذا، عن مواقف رسمية اتخذها أربعة من رؤساء فرنسا خلال الجمهورية الخامسة (شارل دوغول، جورج بومبيدو، فاليري جيسكار ديستان، وفرنسوا ميتيران)؛ وكان جاك شيراك أوّل من نأى عن هذا، في سنة 1995، حين حمّل فرنسا الرسمية مسؤولية الترحيل، وكرّت السبحة بعدئذ مع نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند. هذا، مع ذلك، تطوّر آخر يخصّ تبدّل السياسات والحساسيات على مستوى مؤسسة الرئاسة الفرنسية؛ ولا علاقة له، استطراداً، بالسجال التاريخي العتيق حول مسؤولية الأجهزة البيروقراطية لدولة ما، واقعة تحت احتلال خارجي، كما كانت عليه حال فرنسا في تلك الحقبة. الأرجح أنّ لوبين، في إعادة فتح هذا الملفّ، كانت في واحدة من حالَين، اتكاءً على سلسلة معطيات سبقت الواقعة وأعقبتها. إما أنها تقصدت الأمر لإثارة نقاش عامّ يضفي ديناميكية من نوع ما، على شعبيتها التي ما تزال في الصدارة، لكنها راكدة منذ أشهر، وبحاجة إلى تفعيل، مقابل منافسيها في صفّ اليمين واليسار والوسط؛ كما في مسعى استرداد بعض الشرائح التقليدية التي انفكت قليلاً عن «الجبهة الوطنية» في عهد لوبين الإبنة. أو أنها، في الحال الثانية، ارتكبت خطأ لفظياً، ألحق الأذى بجهود سنوات من ستراتيجيات تجميل صورتها، والنأي بنفسها عن إرث أبيها، جان ـ ماري لوبين، الذي أُحيل إلى القضاء مراراً، بتُهم العنصرية، ومعاداة الساميةـ
بيد أنّ الأمر، كما في كلّ واقعة تخصّ تهمة العداء للسامية، اعتاد أن يتفاقم ويتضخم ويتضاعف؛ لأسباب شتى يتوالد بعضها الجديد من بعضها القديم، أو يُعاد إنتاجها على نحو تكراري متماثل متعاقب، وكأنّ أحداً لا يعبأ حتى بعواقب التسبب في سأم الفرنسيين إزاء قضايا حساسة وذات طابع إنساني مأساوي. على سبيل المثال، صحيفة «لوموند»، المسائية الفرنسية الأبرز، ذهبت فوراً إلى «خطّ أحمر»، هو «الإجماع الوطني حول قراءة الوقائع الأشدّ إيلاماً في تاريخ فرنسا»، اعتبرت أنّ لوبين تجاوزته في نفيها مسؤولية البلد عن ترحيل آلاف اليهود إلى المعسكرات النازية. صحف أخرى، ومجلات أسبوعية، ومحطات تلفزة، سارعت إلى استضافة مؤرخين وكتّاب وساسة، فكانت حصيلة التعليقات أشبه باجترار المكرر، وتكرار المجترّ!
والحال أنّ فرنسا تحظى بمكانة خاصة في قلوب الصهاينة، أو هكذا ينبغي أن تكون الحال تاريخياً. ففي نهاية الأمر، هنا في فرنسا كانت قضية الضابط الفرنسي اليهودي ألفريد دريفوس هي الشرارة الأولى التي أشعلت لهيب فكرة الدولة اليهودية في قلب وعقل صحافي نمساوي يهودي يدعي تيودور هرتزل؛ كان آنذاك في باريس مراسلاً لصحيفة «الصحافة الحرة الجديدة»، أبرز المطبوعات الليبرالية في أوروبا تلك الأيام. صحيح أنّ هرتزل لن يشهد تبرئة دريفوس لأنه توفي عام 1904، ولكنه شاهد بأمّ عينيه وأصاخ السمع عميقاً للحناجر الفرنسية التي كانت تهتف: «الموت لليهود!» على خلفية محاكمة الضابط البريء. مناخات العداء للسامية هذه دفعته إلى كتابة مسرحيته «الغيتو الجديد»، وكرّاسه الأشهر «الدولة اليهودية».
والمفارقة المتمثلة في أن دريفوس نفسه كان بعيداً تماماً عن أي تفكير صهيوني، وهكذا ظلّ حتى وفاته عام 1935، لم تغيّر كثيراً من طبيعة الجدل الديناميكي الذي أطلق الحركة الصهيونية. كذلك فإنّ التصريح الذي أطلقه، ذات يوم غير بعيد، نائب وزير الخارجية الإسرائيلي ميكائيل ملكيور، والذي اتهم فرنسا بأنها اليوم البلد الغربي الأسوأ في ميدان العداء للسامية؛ لم تغيّر من طبيعة وحجم النفوذ الكبير الذي تتمتّع به الأوساط الصهيونية في مختلف ميادين الحياة الفرنسية، السياسية والاقتصادية والثقافية.
وبعد شيراك، الرئيس الديغولي الذي كان أوّل «مراجعي» الموقف من ترحيل يهود فرنسا، تولى خليفته ساركوزي رياضة الرقص على حبلَين في آن معاً: دغدغة المؤمنين ببراءة فرنسا، من جهة؛ ودغدغة خصومهم، المؤمنين بمسؤوليتها، من جهة ثانية. وهكذا، في سنة 2008، خلال واحدة من ذرى التعصّب القومي الشعبوي في خطابه السياسي، بدا ساركوزي وكأنه يبريء الأمّة الفرنسية من كلّ الآثام الكبرى التي شهدتها أوروبا على امتداد القرن العشرين: «أنا من الذين يعتقدون أنّ فرنسا ليس لديها ما تخجل منه في تاريخها. إنها لم ترتكب الإبادة. إنها لم تبتكر الحلّ النهائي. إنها ابتكرت حقوق الإنسان، وهي البلد الذي ناضل أكثر من الجميع دفاعاً عن الحرّية».
بعد أسابيع، حين انتُخب رئيساً، لم يوجّه اللائمة إلى الشعب الفرنسي بأسره، جرّاء المسؤولية التي تتحمّلها فرنسا إزاء المحرقة، فحسب؛ بل خصّ أطفال فرنسا، تلاميذ المدارس الابتدائية والمتوسطة، بعبء من طراز خاصّ، ثقيل، ورهيب: إلزام كلّ طفل حيّ بإحياء ذكرى طفل قضى في المحرقة، على نحو أقرب إلى تقمّص الحيّ للميت! كان ساركوزي يتحدّث أمام العشاء السنوي للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية الفرنسية، الـ CRIF، والذي يتسابق كبار ساسة فرنسا على حضوره والخطابة فيه، للتقرّب من هذه المؤسسة الأهمّ على صعيد تنظيم حياة، واستثمار قوى وطاقات، نُخَب الفرنسيين اليهود.
وبين أبرز هؤلاء كانت السيدة سيمون فاي، الناجية من المحرقة، والتي يراها الكثيرون أيقونة حيّة ترمز إلى الهولوكوست، وربما إلى معظم عذابات اليهود الفرنسيين، فضلاً عن كونها وزيرة سابقة في أكثر من حكومة، وصاحبة القانون الشهير الذي يجيز الإجهاض. «للوهلة الأولى تجمّد الدم في عروقي»، هكذا وصفت فاي ردّ فعلها الغريزي حين استمعت إلى اقتراح ساركوزي، وكانت تتصدّر الصفوف في ذلك الاجتماع بالطبع، قبل أن تضيف إنّ الاقتراح «لا يُحتمل، دراماتيكي، وغير عادل في المقام الأول (…) لا نستطيع أن نلقي بهذا العبء على كاهل أطفال صغار في سنّ العاشرة. هذه الذاكرة أثقل من أن يحملها أحد. حتى نحن، الذين كنّا في عداد المرحّلين للمحرقة، واجهنا بعد الحرب صعوبات كبيرة في الكلام، حتى مع أقربائنا، عمّا شهدناه».
والمرء هنا يتذكّر روجيه كوكيرمان، الرئيس الأسبق للـ CRIF، الذي رفض منح اليهودي أيّ حقّ في انتقاد الحكومة الإسرائيلية؛ وتابع حملة تأثيم «أعداء إسرائيل في فرنسا»، وشنّ هجوماً كاسحاً على «قادة هذا البلد ممّن يقللون من أثر الأفعال المعادية لليهود»، وعلى «السلطات التي يحلو لها أن ترى في الهجوم على كنيس مجرّد عمل من أعمال العنف وليس فعلاً معادياً للسامية»، وعلى «بعض اليهود الذين فقدوا الصلة بالواقع اليهودي»؛ وعلى وسائل الإعلام التي يطيب لها إعطاء أكبر صدى ممكن للأصوات التي تنتقد إسرائيل واليهود، خصوصاً حين تكون تلك الأصوات يهودية»…
ذاكرة ثقيلة، غنيّ عن القول، ولكن الكثير مما يُثقلها يتجمع من ركام اجترار عتيق مستدام، بات أقرب إلى الأغلال المحمولة ذاتياً، واقعة بعد أخرى، سنة بعد سنة، وعقداً بعد عقد؛ ابتداءً من دريفوس، وليس انتهاء عند… مارين لوبين!