الفرنسية كريستين بوتان وزيرة سابقة، ونائبة سابقة في البرلمان، وقد انتمت على الدوام إلى ما يُسمّى «اليمين المسيحي»؛ في فرنسا، ولكن أيضاً على نطاق أوروبي أوسع. وهي، من موقعها في زعامة «الحزب الديمقراطي المسيحي»، تجاسرت على إعلان ما تضمره شرائح ليست ضئيلة ضمن تيارات اليمين الفرنسي: أنها، في الدور الثاني من الانتخابات الفرنسية، سوف تصوّت لصالح مارين لوبين مرشحة اليمين العنصري المتطرف، ضدّ إيمانويل ماكرون.
وإذا بدا هذا الموقف جديداً من حيث سياقات الواقعة التي ينطلق منها، أي المفاضلة بين لوبين وماكرون؛ إلا أنه، في العمق وفي الخلفيات الإيديولوجية، يستعيد مواقف سابقة لهذا اليمين تحديداً، بصدد المثليين، وحقّ الإجهاض؛ ثمّ، بصفة خاصة واستثنائية: الموقف من الإسلام كديانة، ومن المسلمين كـ»مكوّن ديمغرافي» يهدد ثقافة الغرب الدينية، المسيحية الكاثوليكية على وجه التحديد. وبذلك فإنّ بوتان ليست صوتاً منفرداً، في الحياة السياسية لليمين المسيحي الفرنسي، بل هي نموذج ونمط وتيار…
وقبل سنوات، في مناسبة التصويت السويسري على حظر بناء المزيد من المآذن، انتقلت أصداء سجالات السويسريين إلى معظم أرجاء أوروبا؛ وهي أرض الكون المسيحي كما يتوجّب القول، تحرّياً لدقّة أكبر، ما دمنا في المصطلح الديني، وفي مدلولاته.
وفي فرنسا خاصة، قال استطلاع متعجّل أجرته مؤسسة «إيفوب» إنّ 466٪ من الفرنسيين يؤيدون حظر المآذن، وقبلت بها نسبة 40٪، ورفضت نسبة 14٪ الإفصاح عن الرأي. لكنّ المغزى الأهمّ للاستطلاع كان التالي: نسبة 19٪ فقط هي المؤيدة لبناء المساجد، وهي النسبة الأضعف منذ ثلاثة عقود؛ بل هي أضعف حتى من نسبة ما بعد تفجيرات 11/9 سنة 2001، إذْ بلغت 22٪، وهي اليوم 41٪.
يومها لم تتورع السيدة بوتان عن القول إنّ «المئذنة ترمز إلى الديانة الإسلامية، ونحن لسنا في دار الإسلام»؛ متجاهلة تماماً أنّ الأمر ليس تناظراً بين الإسلام والمسيحية، بل هو يخصّ واحداً من حقوق الإنسان الجوهرية، أي حقّ المعتقد وممارسته والتعبير عنه بالوسائل التي يكفلها القانون. فماذا يمكن أن تقول، وسواها، لو أنّ استفتاء معاكساً جرى في القاهرة أو بغداد أو دمشق أو الرباط، وهي عواصم مسلمة بامتياز؛ فأفضت نتيجته (بنسبة 57,5٪، كما في المثال السويسري) إلى حظر تزويد الكنائس بالأجراس، وحظر قرعها أيام الآحاد والمناسبات الدينية؟ ألا يشكل استفتاء كهذا اعتداءً على حرّية المعتقد المسيحي، في «ديار الإسلام»؟ وهل ستقول ردود الأفعال في الغرب إنّ الاستفتاء خطوة ديمقراطية مشروعة، يتفق المرء معها أو يختلف؛ أم ستعتبره ممارسة أصولية متشددة، منتظَرة تماماً من «ديانة تعسفية لا تحترم عقائد الآخرين»؟
والحال أنّ النسبة العالية للـ»نعم» السويسرية كانت قد فاجأت مختلف النُخب هناك، على مستوى الساسة والمعلّقين ورجال الدين؛ دون أن ينسى المرء رجال المال والأعمال والمصارف، الذين أخذتهم خشية من أن يلجأ الأثرياء العرب والمسلمون إلى سحب ودائعهم الخرافية كخطوة ثأرية.
والمفاجأة تلك، مثل مفاجأة الاستطلاع الفرنسي، نجمت ببساطة عن ذلك الشرخ المتزايد في النظر إلى الإسلام، بين تفكير النخبة ورأي الشارع العريض؛ أو بالأحرى بين ما اقترفته بعض تلك النُخب ذاتها في شحن الرأي العام الشعبي، والشعبوي، وتبدو اليوم مندهشة من طبيعته ونطاقاته. كانوا على ثقة من أنّ الـ»لا» هي النتيجة المرجحة منطقياً، وتناسوا أنهم كانوا طيلة السنوات الأخيرة يزرعون مشاعر الـ»نعم» في النفوس، وهم اليوم أمام الحصاد… المنطقي، بدوره.
هذه ديار مسيحية لا ريب، ومن المفهوم أن يشعر المسيحيّ المتديّن البسيط ـ التقليدي أو العصري، سواء بسواء في الواقع ـ بأخطار تتهدد ديانته، من ديانة لا يكفّ أهل النخبة، في المذياع والتلفاز والصحيفة والكتاب، عن وصفها بالمتشددة والمتطرفة والمنغلقة، فضلاً عن كونها صانعة الإرهاب. بيد أنّ هذه أيضاً، ولا ريب، بلاد ديمقراطية تعددية، وموطن أكثر من شرعة كونية لتعزيز حقوق الرأي والتعبير والمعتقد. هل ثمة تناقض موروث ومتأصل ومستعصٍ، إذن؟ وكيف، ومن أين ينبثق؟ وإذا كان طراز الديمقراطية السويسري تحديداً، الذي يُكثر من الاعتماد على استفتاء الشعب، قد أماط اللثام عن حقائق ذلك التناقض؛ فكيف يمكن أن تتكشف حقائق مماثلة في طراز آخر من الديمقراطية، في فرنسا مثلاً؟ على غرار خطاب بوتان؟
الأكاديمي الفرنسي جان ـ بول ولايم، الأخصائي في علم اجتماع الأديان، يرى أن المجتمع الفرنسي تَعَلْمَن، لكنه لم يتجرّد البتة من تديّنه، و»بقي المخيال الوطني ضارب الجذور في المسيحية»؛ بدليل ذلك الملصق الذي اختاره فرنسوا ميتيران، أوّل رئيس اشتراكي في الجمهورية الخامسة، أثناء حملته الانتحابية: صورته واقفاً أمام كنيسة عتيقة، في عمق الريف الفرنسي. ولهذا فإنّ المئذنة، في رأي ولايم، «تخدش المشهد الثقافي، لتفرض تعددية دينية لا تبدو يسيرة القبول». والفرنسيون، مثل الأوروبيين، لديهم ردّ فعل سيادي، وضِيْق من العولمة الاقتصادية والثقافية والدينية. وتطرح عليه صحيفة «فيغارو» الفرنسية ـ اليمينية، للتذكير المفيد ـ السؤال التالي: البعض يرى في المئذنة رمزاً سياسياً ـ دينياً، وعلامة اجتياح»، فيجيب: «إنّ الصروح الدينية هي صيغة تعبير عن تحدّيات حيازة السلطة، إذْ كان الكاثوليك في القرن التاسع عشر مخوّلين ببناء الكنائس في الشوارع الرئيسية، وتُرك للبروتستانت أن يبنوا معابدهم في الشوارع الخلفية والجانبية فقط».
وبالفعل، ألم تعتبر المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل أنّ من الممكن بناء المآذن، شرط أن لا ترتفع أعلى من برج الكنيسة، حيث يُقرع الجرس؟ أليس في جوهر هذه المواقف ما يطلق عليه ولايم، دون تردّد، تسمية «الكاثو ـ علمانية»، نسبة إلى تَكَثْلُك أو كَثْلَكة الحياة اليومية التي تبدو علمانية في المظهر، ولكنها في الباطن تواصل تديّنها القديم، بدليل التقويم المسيحي، والأعياد الدينية، وعادات المأكل والمشرب؟ أليست جميع الأديان التوحيدية مشتركة في صفة الأداء الشعائري للعبادات والمناسك، وبالتالي من غير الممكن بلوغ تعددية دينية فعلية، وتعايش مشترك صادق، دون احتمال الجميع للجميع؟
ليس مدهشاً، إذن، أن يعود التفكير الغربي إلى أطروحات هنتنغتون كلّما ثارت خصومة بين الإسلام والغرب، أو بالأصحّ بين المؤسسات التي تحسن إدارة هذه المعارك وتتقن فنون تأجيجها؛ في الغرب كما في الشرق، وفي المسجد كما في الكنيسة. كانت أطروحة هنتنغتون قد نهضت على القول بأنّ الثقافة والهويات الثقافية هي التي تصنع اليوم أنساق التجانس والتنافر، والتصالح والتنازع، والسلام والحرب، في عالم ما بعد الحرب الباردة. وقد رأينا تلك الأطروحة تجدد نفسها كلما وجدت الديمقراطيات الغربية أنها أمام مأزق انسياق صندوق الاقتراع نحو تضخيم تلك الثنائيات الزائفة: شرق وغرب، إسلام ومسيحية، العوالم المتقابلة، المركز والأطراف… هي، أيضاً، تشخيصات نسفت نظرية انقسام العالم إلى «مناطق سلام» و«مناطق اضطرام» (زبغنيو بريجنسكي)؛ ونظرية الجحيم في قلب الفردوس المفقود (دانييل باتريك موينيهان)؛ وكانت، أصلاً، قد نسفت نظرية انتهاء التاريخ (فرنسيس فوكوياما).
ثمّ، أليس مما له دلالة كبيرة، ونوعية، أنّ الصوت الوحيد الذي تجاسر على إعلان التصويت لصالح لوبين، ضمن صفوف اليمين الفرنسي، خرج من حزب يعلن الانتماء إلى الديمقراطية من جهة، وإلى والمسيحية من جهة ثانية، أو إليهما معاً في جناس وتجانس؟ أو، في عمق المسألة، أن تستقرّ ثنائية برج الكنيسة/ مئذنة المسجد في قلب… صندوق الاقتراع؟
صبحي حديدي٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس