المقارنة بين الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون، والرئيس الليبي السابق العقيد معمر القذافي فيها ظلم كبير للرجلين، فالرجلان مختلفان في اوجه عديدة، وابرزها العامل الجغرافي واعتباراته السياسية، ومعايير الانجاز في الميادين التسليحية والعسكرية.
المسؤولون الامريكيون نجحوا، عبر حليفهم الماكر طوني بلير في اقناع العقيد القذافي بالتخلي عن تجاربه النووية وترسانته من اسلحة الدمار الشامل الكيميائية، لتقديم درس لكوريا الشمالية لعله يقنعها بالسير على الطريق نفسه، ورفع راية الاستسلام البيضاء، ولكن النتائج جاءت عكسية تماما حتى الآن على الاقل.
كيم جونغ اون، زعيم كوريا الشمالية استوعب الدرس الليبي جيدا، خاصة الفصل الختامي منه، وهو مكافأة الغرب للزعيم القذافي بإسقاط نظامه، وسحله في الشوارع، وعرضه في ثلاجة قديمة للخضار لمدة ثلاثة ايام تشفيا وانتقاما حتى فاحت رائحته.
الزعيم الكوري ادرك جيدا ان امريكا، او اي قوة غربية اخرى، لا يمكن ان تجرؤ على مهاجمة قوة نووية، ولهذا يلجأ الى التصعيد، ويواصل التحدي، ويصر على ان لا يواجه المصير نفسه الذي واجهه الزعيم الليبي بتواطؤ عربي، وهذا ما يفسر اقدامه فجر اليوم السبت على تجربة جديدة لصاروخ باليستي متوسط المدى، كرد على التهديدات والتحذيرات الامريكية.
الولايات المتحدة، وعلى لسان اكثر من رئيس لها، اتهمت الزعيم الليبي بالجنون، وها هي مندوبتها في الامم المتحدة نيكي هيلي توجه التهمة نفسها الى الرئيس الكوري الشمالي، وتقول “لا اعتقد اننا نتعاطى مع شخص متزن، انه رجل لا يفكر بطريقة واضحة”.
العقيد معمر القذافي خسر نظامه وحياته عندما تخلى عن جنونه، وتحلى بالحكمة والتعقل، ووقع في مصيدة الوعود الامريكية والغربية الكاذبة، وسلم اسلحته، واودع 200 مليار دولار من ثروات بلاده المالية والذهبية في مصارفها، ولا نعتقد ان الزعيم الكوري مجنونا فعلا لكي يقع في المصيدة نفسها، وتصرفاته وسياساته تؤكد انه الاكثر حكمة وتعقلا من نظيره الامريكي دونالد ترامب.
ترامب بات هو المحاصر وليس الرئيس الكوري، وتهديداته بارسال حاملة الطائرات كارل فينسون ورهط من فرقاطاتها العسكرية لم ترهب الاخير، لانه قبل التحدي، وقرر النزول الى الميدان، مهددا بضربات استباقية، وتوجيه رسائل صريحة الى امريكا “اذا ضربتمونا بالنووي سنرد بمثله، واذا قصفتمونا بالصواريخ والاسلحة التقليدية سنرد الصاع صاعين”.
***
كوريا الجنوبية التي يمكن ان تكون قواعدها الامريكية (تضم 30 الف جندي) هدفا لاي ضربات انتقامية من كوريا الشمالية مثل اليابان، ادركت خطر جنون الرئيس الامريكي وادارته، وبدأت بالتمرد عليه عندما اعلنت رفضها دفع تكاليف نظام الدفاع الصاروخي الذي بدأت وزارة الدفاع الامريكية نصبه في اراضيها للتصدي لاي صواريخ قادمة من الشمال، وتقدر قيمتها بحوالي مليار دولار.
العقيد معمر القدافي اصابه الجنون فعلا عندما سلم اسلحته الكيميائية وشحن معامله النووية ومعداتها الى واشنطن، والزعيم الكوري كيم جونغ يدرك هذه الحقيقة جيدا، ولهذا يتمتع في رأينا بأقصى درجات الحكمة والعقل والحسابات الدقيقة، بصموده في وجه الابتزاز العسكري الامريكي.
هذا الرجل يقدم لكل الذين يعانون من الاستكبار الامريكي درسا للكرامة الوطنية وعزة النفس، لانه قرر ان يموت مثل اشجار الصنوبر واقفا شامخا، اذا كان لا بد من الموت دفاعا عن الوطن.
عبد الباري عطوان