الأسوأ من شيطنة لوبان… شيطنة ماكرون! | صحيفة السفير

الأسوأ من شيطنة لوبان… شيطنة ماكرون!

اثنين, 08/05/2017 - 17:16

ليست «الجبهة الوطنية» اليمينية القصوية حزباً إنقلابياً. هي حزب إنتخابي بإمتياز. حزب مدمن على الإنتخابات مثل سائر الأحزاب في بلد فيه تدعى فيها الهيئات الناخبة للإقتراع مرة على الأقل كل سنة، بين إنتخابات رئاسية وتشريعية ومحلية وإقليمية وأوروبية. ليس لدى هذا الحزب لا خطة جاهزة ولا خطة مبيتة ولا قصدية واعية لتعليق الديمقراطية التمثيلية في بلد كفرنسا. 
لا يمكن بطبيعة الحال الفصل بشكل مطلق بين «الفاشية» في زمانها، من نهاية الحرب العالمية الأولى إلى «الإنتصار على الفاشية» في الثانية، وبين اليمين المتطرف بتنويعاته «الفاشية الجديدة» و»ما بعد الفاشية» في آخر سبعين عاما من التاريخ الأوروبي، لكن النوع الذي تمثّله «الجبهة الوطنية» الفرنسية، خصوصاً مع مارين لوبان، هو نوع عالق باللحظة الإنتخابية، بالحسبة الإنتخابية، بالرقم والفاصلة، أكثر من شيء آخر. بشكل عام، كلما اتجهنا صوب الغرب من القارة العجوز، كلما كانت الأحزاب اليمينية المتطرفة الأساسية في كل بلد منها أقرب إلى هذا النموذج «الإنتخابوي»، ويمكن تسميتها «فاشية إنتخابية» لم لا، لكن ما الذي يبقى ساعتها من مدلول الفاشية؟
 أما إذا اتجهنا صوب أوروبا الوسطى والشرقية فتختلف الحال أكثر فأكثر، من جهة، لأنّ الديمقراطية التمثيلية تتعرّض لإختبار مراجعة «سلطوي محافظ» خطير في المجر وبولندا، وكذلك تبدو بلغاريا ورومانيا ودول البلطيق على الطريق، ومن جهة ثانية، لأن التشكيلات القومية المتطرفة في هذه البلدان لا تزال تمتلك جماعات تحرّك ميداني عنيفة، قد تكون أكثرها خطورة تلك القائمة في أوكرانيا. والتشكيلات القومية المتطرفة، والتي تزاول الألعاب الخشنة أكثر مما تزاول الإنتخابات، في الشرق الأوروبي، في منأى عن تقديم أي «إعتذارية» عن نسبها الفاشي أو السعي لتنقيحه، ولا عن تمجيدها لأشخاص وحركات تعاملت مع ألمانيا النازية، لأنها تعتبر نفسها حركات مقاومة ضدّ الشيوعية السوفياتية (وبالنسبة للقوميين الأوكران واصلوا هذا النوع من المقاومة حتى ستينيات القرن الماضي).شيطنة «الجبهة الوطنية» ليل نهار ليس مدخلاً جيداً لمقاربة تاريخها ومآلها.
 في الوقت نفسه، لا يعني نفي الصفة الإنقلابية عنها، أو مساءلة النعت الفاشي لها، أنها تشكيل سياسي عادي مثله مثل سواه. فهي لا تزال حزباً بجهاز سلطوي داخله. ديمقراطيتها الداخلية ما تزال محدودة، ولا يلغي ذلك وجود إتجاهات مختلفة ضمنها، لكن طريقة تفاعل هذه الإتجاهات وترجيح الكفة لإحداها على الأخرى لم تتحول إلى مؤسساتية بشكل منهجي.
 لم تعد الجبهة تمتلك مجموعات تحريك ميدانية خشنة في الشوارع، مثلما كانت عليه الحال حتى التسعينيات، بل حدث نوع من الطلاق بين المجموعات اليمينية المتطرفة على يمينها وبينها كجسم سياسي مدمن على الإنتخابات، وهذا لا يتعلق فقط بالمجموعات المتطرفة الميدانية، بل أيضاً بالمواقع والمدونات على شبكة الأنترنت التي تشكل ما بات يعرف بإسم «الفاشوسفير»، أو المجال الإفتراضي للنشاط الفاشي على الأنترنت في فرنسا.
لا تكمن خطورة الجبهة في منسوب لاساميتها أو في منسوب إسلاموفوبيتها أو في جرمانوفوبيتها، طالما هي لا تمجد العنف الأهلي ولا تكره البرلمانية. تكمن في نجاحها في تحويل «العلمانية» من مركز ثقل المعسكر التقدمي إلى مركز ثقل للمعسكر الرجعي. تكمن في نجاحها في انتزاع موقع الصدارة انتخابياً، بالنسبة للتصويت العمالي، وخلافة الحزب الشيوعي من هذه الناحية، من دون أن يجعلها هذا حزباً شيوعياً جديداً بالنسبة للعمال والطبقات الشعبية، إلا بنظر الأغبياء. وتكمن في نجاحها في التحول إلى «صوت» المدن الصغيرة بوجه المدن الكبيرة. وتكمن مع كل هذا، في أنّ الديموقراطية تعيش فترة انكماش عالمية، بحيث أنّ صعود تشكيل سياسي فرنسي، حتى ولو كان تطرفه اليميني لا يرقى إلى درجة الفاشية، انما يتضافر مع العناصر الأخرى المخلخلة بتراكمها، للمسار الديمقراطي على الصعيد العالمي.
لكن ما هو أخطر من كل ذلك هو نجاح «الجبهة الوطنية» ليس فقط في الوصول مرة ثانية للدورة الثانية من الرئاسيات الفرنسية، بل نجاحها في بث «شيطنة» تستهدف خصمها ايمانويل ماكرون، بحيث أن شيطنة ماكرون، واسقاط كل تنويعات نظرية المؤامرة عليه، وإعتباره خطراً سياسياً واقتصادياً وثقافياً وأخلاقياً وأمنياً في آن، مارست تأثيرها في هذا الموسم أبعد بكثير من معسكر من يعتزم التصويت لصالح مارين لوبان بوجه ايمانويل ماكرون، بل أنّ «شيطنة» ماكرون مرشحة للمضي قدماً مع الدخول في حماوة الإنتخابات التشريعية بعد شهر.لئن كانت شيطنة حزب مارين لوبان غير مقنعة، فإنّ «شيطنة ماكرون» أسوأ بما لا يقاس.
 صحيح أن الرجل عالق أكثر من اللازم في الطابع التقني الإداري للأمور في المسائل الاقتصادية والمالية والعلاقات الأوروبية، وأنّه «يلهي نفسه» عن مقاربة الأزمة المؤسساتية للجمهورية الخامسة، لكن قراءة ظاهرته كما لو كان بعين المعاداة البدائية للرأسمالية، والتمسك البدائي بالسيادة الترابية غير الممتلكة لشروط صيانة شروطها، هو أسوأ بكثير من المقاربة المشيطنة للوبان، التي تصورها كخطر فاشي حقيقي على الديمقراطية الفرنسية، في غفلة على أنّها لا تمتلك حتى الحد الأدنى من مواصفات الزعامة الكاريزمية، وليست الزعامة الكاريزمية بشيء هامشي لا في الحركات الفاشية ولا في عموم الحركات الشعبوية.وصحيح ان نسبة كادت تصل إلى النصف من الفرنسيين صوتت ضد الاستبلشمنت، من على يساره أو من على يمينه في الدورة الاولى، لكن ظاهرة ماكرون ليست استبلشمنتية تماماً. 
بالحد الأدنى لو كانت كذلك من دون أي تمييز، لما كانت «شيطنته» إلى هذه الدرجة مبررة. ثم أنّ تجربته في حكومة مانويل فالس والى جانب فرنسوا اولاند لا تعني انه عندما ترك هذه الحكومة أو عندما اختار الترشح من دون الاحتكام لتمهيديات الحزب الاشتراكي، انما فعل ذلك بـ»توزيع» تآمري للأدوار بينه وبين أولاند. ذلك أن الضحية الاولى لماكرون لم تكن لا اليمين ولا اليمين المتطرف، وانما الحزب الإشتراكي الميتراني، أحد أعمدة الاستبلشمنت في الأربعين عاماً الأخيرة من عمر فرنسا.

 

وسام سعادة٭ كاتب لبناني