في يوم ذكرى العيد الدولي لحرية الصحافة غاب أي احتفال ذي بال بهذا اليوم الرمزي، رغم ما تتمتع به موريتانيا من رُتبة في مجال الإعلام الحر لدى بعض المنظمات الدولية، المهتمة بهذا الشأن، مثل "مراسلون بلا حدود".
وفي الوقت الذي تتكرس فيه هذه الحرية، تغيبُ فيه الوسائل المادية الكافية لاستمرارية هذا القطاع، أمر بات معروفًا لدى كل متابع للشأن الإعلامي المحلي.
حيثُ يُسمح للصُحفيين والكُتّاب بتسطير وإخراج ما تجود به قرائحُهُم، لكن عليهم الصبر على الضريبة.
فالبمقابل الإقصاء والحرمان، أو التجويع بعبارة أكثر وفاءًا للمعنى.
إن تلازمية الحرية والجوع، ظاهرة موريتانية، لا تُحقق التنمية ولا تُغذي الحرية.
فمع مرور الوقت وبعد إطلاق حرية التعبير منذ مطلع التسعينات، استطاع الموريتانيون عمومًا، التمتع بصحافة حرة جريئة، أسدت الكثير من النصائح وناقشتْ الكثير من الملفات، لكنها غير مُقنعة في حساب النظام الأُحادي الاستبدادي، الذي لا يُريد على ما يبدو، أن تظفر هذه الحرية بدعامة مادية تمنحُ الحياة والتوازن.
هذا الواقع المُربِك المقلق، دفعَ الكثيرين للتساؤل المشروع، هل يستطيع أصحاب الأمعاء الخاوية التفكير بحرية أصلاً، وهل يستطيعون أداء مهنة الإعلام باقتدار وإيجابية.
إن الجوع قاتلٌ للأداء البشري الطبيعي عمومًا، والحاجة الماسة والفقر المدقع لا يوفر البيئة المناسبة للتفكير والإبداع والاستقلالية، وإن حصل فهو استثناءٌ لا يدومُ غالبًا.
وقطعًا إذا أرادت الجهة الرسمية الموريتانية التشجيع على إقامة صحافة مستقلة ناجحة، فلابد أن تُفكر في هذه الوضعية المُزرية، التي يعيشُها الإعلام الخاص، وبوجه خاص، والإعلام عمومًا في بلدنا.
وإننا نتطلّعُ باستمرار لتمكن جهات واعية حاضنة للحرية من كرسي الحكم، يومًا ما، عسى أن تغير من هذه المعادلة والازدواجية غير المرغوبة، بين الحرية والأمعاء الخاوية.
فإذا كانت ظروفًا وعوامل مختلفةً ومتنوعة، قد أعطت وفرضت الحرية الإعلامية، فإن ذلك لا يكفي لترسيخها، دون دعم ملموسٍ ومددٍ يُغني عن الاعتماد على الغير، ويُحصِّن خط التحرير والتعبير.
لقد كان من المتوقع أن تكون ذكرى اليوم العالمي لحرية الصحافة في موريتانيا، هذه المرة، باهتة، من غير طعمٍ ولا حيوية، لأن الحرية الفوضوية المُهمَلَة، لا ترقى للفت الانتباه بقوة، ولأن القَيِّمين عليها، أغلبُهُم يتسكَّعُ في الطرق وعلى أبواب الناس، من غير طريقة سديدة مدروسة، للحصول على القوتِ الشريفِ، المسكِّن للجوع وعذاب الضمير.
لقد هَجَرَ الكثيرُ من عُشّاق وهُوّاة هذه المهنة ساحتَها، هروبًا من الجوع والتسوُّل المباشر أو غير المباشر، وليس كُرهًا للإعلام الحُر ولكن حميةً للكرامة وحياءًا من السقوط.
الصابرون على هذا القطاع كالقابضون على الجمر.
وحرية بلا رزق شريف لا معنى لها ولا مُستبقل.
ولا غرابة أن تظلَّ مائعة غير جديرة بالاعتبار، رغم ما يُبذلُ من جُهدٍ لتحليل الحدث وإيصال الخبر والسهر على الهم الوطني والدولي.
فالهواية لا تكفي لتأسيس مِهنةٍ مُتنوِّعة الحاجات كالصحافة.
ولكل بناءٍ أركان، ومن أهم أركان هذه المهنة أخلاقياتُها وسلّةُ غذائها، فهي قوامُها ومصدَرُ استقلاليتها.
وإلا تُصبِحُ مهزلةً وعُرضةً لكل من دبّ وهبّ، سبيلاً للاسترزاق الهابط والابتزاز الكريه.
وستبقى الحرية الإعلامية في موريتانيا دون المستوى المطلوب المُريح، ما لم تحظَ بتمويلٍ ودعمٍ حقيقيٍ عاجل، لتقف على قدمين ثابتتين مطمئنتين وإلا فإن غياب القوتِ الشريف غير المشروط، سيؤثر سلبًا وبقوة، على صدقية المهنة واستقلاليتها، ويدفعُها في مهاوى التنازل والانحياز والتخبط.
وباختصار ينبغي على القائمين على هذه المهنة الانتباه إلى خطورة الوضع الراهن ورفض هذا الحصار الرسمي، وبأُسلوبٍ علنيٍ سِلميٍ.
فمنحى الإهمال وعدم الدعم وعدم التنظيم المُنصف لمكانة المهنة، يعني إطلاق رصاصة الرحمة على ما هو مُتاحٌ من الحرية الإعلامية.
التجويع والحصار كفيل وحده بإفراغ هذه الحُرية من روحها وجوهرها، وتحويلها إلى شعار أجوفٍ وهيكلٍ متهاوٍ، ينخرُه الخراب والتلاشي، ولو تدريجيًا.
وقديمًا قالت العرب، في مثلها البليغ، الذي شاع وبلغ الآفاق، "قطعُ الأعناق ولا قطع الأرزاق".
بقلم عبد الفتاح ولد اعبيدن