في بلدان عادة ما تنتهي فيها المظاهرات برمي الشباب المقنع للحجارة على شرطة مكافحة الشغب، وإقدام هذه الأخيرة على رش أحياء بكاملها بالغازات المسيلة للدموع، ترى في الوقت نفسه حجم ردود فعل الشارع الأوروبي على نتائج الانتخابات الفرنسية التي ذهب البعض معلِّقاً ومغرِّداً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بأنها انتصار لقيم الثورة الفرنسية والإنسانية أجمع.
سقوط نجم اليمين الشعبوي في هذه الانتخابات عكس الحاجة إلى سماع صوت التغيير المنصب في احترام التعددية والاستقلالية السياسية، من خلال دماء شابة تقود دفة البلاد بدلاً من كهول أكل عليها الدهر.
ولو نظرنا إلى طبيعة المشهد السياسي الجديد الآخذ في التشكل منذ بدأت الحركات الميدانية في العالم تتزايد من خلال حركات الاحتجاج خارج الأحزاب التقليدية وأشكال التنظيم التاريخية المتعارف عليها في أكثر من بلد أوروبي وحتى في البلدان التي سئم الشارع من هيمنة الأحزاب نفسها على المشهد ذاته.
وهو ما يعني أن العالم قد دخل إلى مرحلة جديدة نابعة من ظاهرة امتدت إلى جميع دول العالم، فالدول الغنية استطاعت أن تستوعب ظاهرة الحركات الصاعدة فى العملية الديمقراطية مثل حزب “بوديموس″ الإسباني، و”الخمس نجوم” الإيطالي، و”إلى الأمام” الفرنسي.
وينصب الدافع الرئيسي من وراء هذا الحراك الميداني كما جاء ذكره من قبل المراقبين الأوروبيين تعبيراً لواقع “حالة الرفض” النابعة من المواطن الأوروبي لاحتكار السلطة والثروة من قبل فئة قليلة داخل مجتمعه. ليس هذا فحسب ولكن فقدان حيوية المؤسسات وفشل السياسيات من قبل الأحزاب التقليدية، ولهذا جاء التحرك الجماهيري على شكل كتل مجتمعية منها المهمش ومنها المعذب ومنها الغاضب… هكذا أصبحت تصنف هذه الكتل الجديدة داخل المجتمعات الأوروبية ولاسيما في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا. ما يعنى تراجع اليمين واليسار والحراك الطبقي بمعناه التاريخي ما يجعل التحرك عبر الكتل هو العامل الحاسم للتغيير.
وهو الأمر الذي أكد عليه الباحث والكاتب المصري سمير مرقص في سلسلة مقالات نشرتها الأهرام المصرية “الكتل الجديدة الصاعدة… تراجع اليمين واليسار”، موضحاً من خلال المسح المعرفي الكوني “تبيَّن أن دول العالم فى القارات الست قد تبلورت فيها بدرجة أو أخرى قوى اجتماعية تميل إلى الانتظام “ككتلة” مجتمعية أكثر من أن تنتظم فى حزب سياسي. إذ إن “الكتلة” تتحرك فى فضاء سياسى ومدنى حر لا يمتثل إلى قيود مؤسسية ولا يخضع إلى شروط قانونية أو اجتماعية. كما أن “الكتلة” المجتمعية مفتوحة العضوية، وقابلة لاستيعاب عناصر سياسية ومدنية وثقافية عديدة، أو بلغة أخرى، كتلة أقرب لتكون تحالفاً عريضاً متعدد ألوان الطيف الطبقي. ويعنى ما سبق أن “الكتل الجديدة” هي كتل قد ضاقت بالتشكيلات السياسية المتعارف عليها والمستقرة في المجال السياسي: فكراً وممارسة منذ الحرب العالمية الثانية، أخذاً في الاعتبار أن هذه الكتل قد تدعم أحزاباً موجودة ولكن من دون أن تنخرط في عضويتها، وذلك بالتصويت لها أو التحالف معها”.
وأوضح مرقص “إن ما يجمع بين هذه “الكتل الجديدة”، في شتى أنحاء العالم هو “الغضب الشعبي” من الفساد والاستبداد والاستغلال، وتحديداً “تمركز صناعة القرار، والثروة، والامتيازات” في أيدى قلة وفي إطار شبكات مغلقة والتداعيات الكارثية لسياسات الليبرالية الجديدة”.
إن واقع الحال في دول مثل إسبانيا يعكس خيار خوض الانتخابات عبر حركات الكتل الجديدة. فهذه الكتل تلعب دور الحاضن للطبقات والشرائح الاجتماعية وأيضاً دوراً احتجاجياً وتغييرياً مطالباً بالعدالة الغائبة بسبب التفاوت الذي خلفته سياسات الرأسمالية الجامحة.
ريم خليفة.. كاتبة وإعلامية بحرينية
reemkhalifa17@gmail. com