سياسة الأمل متشائمة فكريا ومتفائلة بالإرادة والإدارة..!
فرص تجديد الوعي واستبدال السياقات التقليدية أثناء الأزمات لا تتكرر، ويجب أن يدركها المثقفون والساسة ويبتعدوا عن التسطيح ولا يتبنوا مواقف قشورية – من القشور- بل يواجهوا المشكلات في عمقها، ويلتزموا بواجب مواجهة تحديات أخرى مغايرة لم يألفوها.
إن من الصعوبة بمكان القيام بتحليلات حيادية، أو تحليلات منطقية بمنأى عن الخلفيات والجذور العميقة لأزمات الواقع الفسيفسائية المتداخلة، أو تجاهل رواسب أحداث وسياسات متناقضة لأربعة عقود سادها التخبط والتقلب واللاستقرار، وتغيرت فيها وجهات وأحلاف وعداوات السلطة خارجياً وداخلياً بشكل رهيب وغامض.!.
دأبت السلطة السابقة على ارتداء قفازات الوطنية، لارتكاب الأعمال الهمجية من اغتيالات وتفجيرات ودعم انقلابات وشنق علني وهدم بيوت، وتجنيد إجباري لحرب تشاد، وتقشف فاشي ومنع مزاجي للسلع الأوروبية ، وترسيم مرضي للانغلاق والتقوقع السياسي والثقافي وفرض العزلة، بادعاءات وطنية ملوثة صاحبها عداء صريح وسافر، سواء لمصر السادات، أو تونس بورقيبة، أو جزائر الشاذلي، أو مغرب الحسن، أو أردن الحسين، أو عراق صدام، أو عمان قابوس، أو سعودية فهد، أو لبنان الجميع، ولكل ذلك تأثيراته وأضراره المستقبلية على من عايشوها واعتنقوها وتداخلت مع جغرافيتهم الفكرية..!
الراديكالية الليبية المجرثمة التي أوجدتها السلطة السابقة تآخت مع التطرف العمومي، وأفرزا سويا العنف – النفسي والذهني والجسدي- فخطابات التحريض والكراهية التي اتسم بها عقد سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وعاد واشتعل بعد 2006، مازالت لها أصداء تتردد في الصدور والأذهان، ولازالت تشكل عقبة حقيقة أمام المثقفين، الذين أمضوا سينين طويلة في حظائر السلطة، واعتادوا لعب دور المثقف الداجن المخصي فكرياً وكذا محظيات السلطة.!.
لعل عنصر سوء التفاهم – الذي يشكل محور النزاع – يتكأ على إفرازات فكرية فاسدة، ويغديه مثقفون ومتثاقفون جندت طاقاتهم، أو هم جندوها في معسكرات وطنية موهومة جدرانها من زجاج، يتعاطون حقائق تحتاج إلى تقييم مزاياها وصلاحياتها وصدقيتها..!
إن تجند المثقفين – المنتجين للثقافة والفكر- وراء سبتمبر لرجم فبراير، أو وراء فبراير لرجم سبتمبر خطأً جسيم وكارثة، وبؤساً ثقافي مخزٍ، إذ لا يجب على المثقف سوى التجند للحقيقة، أو المنطق إذا كانت الحقيقة غائمة أو ملونة كما هي الأن..!
لنتصارح - هنالك أعطال بنيوية مربكة في المجتمع الليبي عموماً، إذ لازال المثقفون والشباب والتكنوقراطيون أدوات – مفكات ومفاتيح وبراغي- بيد السلطة أو العشيرة، واعتادوا جميعاً على الدجن والالتفاف الشعبوي حول أفكار شخصية ذات جوهر براغماتي فردي، أو استسهلوا التبعية لكريزمات خاوية غائية ومحدودة، لازالت تحمل أفكار عتيقة وتنادي بسرابات ساذجة – القوموية والاستعمار والرأسمالية - لتغذي احتياجات نفسية واجتماعية تخدمها وتضمن استمرارها، وقد عكفت السلطات لعقود على ترسيخ تلك السرابات واستخدامها كمحركات للرأي العام، واجتهدت في تضخيمها والاستفادة منها في خلق أعداء بالداخل – كلاب ضالة- أو بالخارج – الإمبريالية- لحاجتها إلى وجود أعداء وشيطنتهم لضمان ملائكيتها، مما يحقق لها مكاسب شعبوية، ويشرع لها إجراءات عقاب أعداء الداخل وتقليب المجتمع وتبديل قياداته وتفكيكه وتلغيمه اجتماعياً، وقلب المفاهيم وتمكين الموالين لها من اللامنتمين من السيطرة والسلطة والقيادة، وتحويلهم إلى رموز ومناضلين مفرغين وتسمهم بالبراغماتية الفردية، بالإضافة إلى معاداة ومقاطعة أعداء الخارج، وجعل الانغلاق والفصام والفاشية التي غرستها السلطة بإتقان مشاريع نضالية مقدسة، أدت إلى تخلخل بنى المجتمع ورجعيتها، وحتمت على هيكل السلطة الفراغية بكل معانيها، فظلت سلطة الفرد حقيقة قائمة، رغم ازدحام موائدها والتشدق بعشقها والذود عنها ظاهرياً وقولاً لا فعلاً في حينه..!
لازالت أدوار طبقات المثقفين والشباب والتكنوقراطيين تعاني من فوضى الفاشية بأنواعها – سياسية أو دينية أو عشائرية- و هذه الطبقات إن صحت التسمية أو جازت تعد طبقات صامتة وسلبية، ولا يعول عليها فعلياً، رغم أنها تستخدم كسلالم ومبررات أو واجهات ووقود حيوي لأغلب إن لم نقل جميع الأحداث، فمحور النزاع ليس السياسة وليس السلطة بشكلها التقليدي، بل لعله نمط الحياة وتشكيل العقل الجمعي للمجتمع، فأطراف الصراع تخوض حرب مفاهيم وهوية وايدلوجيا ضارية، وتسعى جميعها إلى توطين مبادئها وحمل المجتمع – الشعب الليبي بأسره- على اعتناقها، وخوض الحياة وفق نظمها ورؤاها.
إن تقمص المثقف – المنتج حصراً- لأدوار السياسي أو المخابراتي أو الزعيم القبلي أو الشعوبي نزع جوهره وأبقى على جلده عفناً، كما أن حلول أؤلئك – السياسي والمخابراتي والقبلي والشعبوي- في جلده لوث هويته ورسالته وأربكها، وأسهم المثقف وأولئك في تعطيل النضج وجرثمة الوعي وإدامة الفوضى، واستثمرها الأولئك لصالحهم ونزل المثقف للدرك الأسفل، أو أُجبر على متابعة دور المخصي والمحظية و" زمزام" السلطة أو أفرادها ملاك مصالحه ومسارب أطماعه..!
اعتقد أن استعادة المثقف المنتج لهويته الأصلية، ليس مشروع فردي بل جماعي يخوضه المثقفون بمعزل عن الأهواء والأطماع، وباقتراف النبل على الدوام على الأقل مهنياً..!