تحمّست روسيا للدفاع عن سوريا بعدما تكاثرت القوى العابثة بالأمن السوري، وقرّرت تحريك العديد من قطعها البحرية إلى شرق البحر الأبيض المتوسّط، ولم تتردّد في شحن صواريخها المضادّة للطائرات من طراز ٍ300S، ومن ثم من طراز ٍ400S، ونشرها على الأراضي السورية. وقد أعلنت روسيا بعد نشر صواريخها أن الأراضي السورية محرّمة على الطيران المعادي، وأن الطائرات التي تنتهك الأجواء السورية سيتم إسقاطها.
وقد نظر العالم بعيون متباينة لهذا التطوّر الروسي والعلاقة مع دمشق. نظرة أهل الغرب كانت وما زالت سلبية، وتمّ توجيه العديد من الانتقادات للنشاطات الروسية في سوريا، ووجّه العديد من الكتّاب العرب والأجانب أقلامهم ضدّ روسيا التي وصفها بعضهم بالاستعمارية. لكن الإجراءات الروسية لاقت استحساناً كبيراً من قِبَل بعض الدول العربية وبعض القوى العالمية التي ترى في الغرب أهل فتن وحروب وسفك دماء. والعديد من الكتّاب والمثقفين العرب أشادوا بالموقف الروسي وقدّموا الشكر والامتنان لروسيا على دعمها لسوريا في مواجهة التنظيمات المدعومة من أهل الغرب.
وبالرغم من الموقف الروسي الشجاع في مواجهة الدول الاستعمارية الغربية بقيت الطائرات المعادية لسوريا تخترق الأجواء السورية من دون رادع. اخترق الطيران الصهيوني الأجواء السورية عدّة مرات ولم تنطلق الصواريخ المضادّة للطائرات إلا في مرة واحدة وهي الصواريخ التي تقع تحت إمرة الجيش السوري من طراز ٍ200S. صحيح أن بعض الهجمات الإسرائيلية لم تتم من السماء السورية مباشرة وإنما من السماء السورية غير المباشرة، أي من سماء الجولان المحتل. لكن بعض الهجمات الصهيونية تمّت من السماء السورية مباشرة. كما أن تركيا استعملت طيرانها على استحياء لقصف مواقع كردية كانت تحارب داعش في الشمال السوري. وقامت أميركا بقصف الجيش السوري في دير الزور ومن ثم مطار الشعيرات القريب من دمشق بصواريخ توما هوك من دون أن تتصدّى لها الصواريخ الروسية.
وعقبها أعلنت روسيا أنها ستساعد سوريا على توليّ أمر الدفاع عن نفسها بنفسها. وفهمنا من هذا التصريح أن منظومات الصواريخ المضادّة للطائرات والمتطوّرة ستصبح تحت إمرة الجيش السوري بدل إمرة الجيش الروسي. وهذا مفهوم من حيث أن روسيا لا تريد أن تصطدم مع الولايات المتحدة بسبب محاذير هذا الصدام إن تم. من الأسلم من زاوية العلاقات الروسية الأميركية أن يكون الصِدام غير مباشر، وأن تكون لدى روسيا حجّة بأنها لم تقم بإسقاط طائرات أميركية. لكن أميركا هاجمت قافلة عسكرية تابعة للجيش السوري يوم 19/5/2017 ولم تنطلق الصواريخ تجاه طائرات التحالف الأميركي.
قال البيان الأميركي الصادر بهذا الخصوص إن طائرات التحالف قد هاجمت قافلة عسكرية متّجهة جنوباً وتابعة لحلفاء الجيش السوري، ودمّرت دبابة واحدة مع حرصها على حياة البشر. لكن لم تقل في بيانها في ما إذا كانت الدبابة ذاتية الحركة أم مأهولة بجنود يقودونها. لقد سقط شهداء وفق البيان السوري. ويبدو أن وحدات الجيش السوري كانت تتّجه جنوباً تحسّباً لأي هجوم عسكري معادٍ من أراضي سوريا الجنوبية (شرقي الأردن). ربما كانت تقترب القوات السورية من معسكر التنف الذي تقوم عليه قاعدة عسكرية أميركية مرشّحة للتوسعة والتحديث لتكون قادرة على دعم التحرّكات العسكرية الأميركية في المنطقة. وقد ادّعت أميركا أنها أبلغت الجانب الروسي مسبقاً بنواياها العدوانية ضدّ الجيش السوري، وقد نقل الروس نصيحتهم للسوريين بألا يتقدّموا جنوباً، لكن الجيش السوري أدار ظهره للنصيحة. والنتيجة كما رأينا وسمعنا اقتصرت على إدانة واستنكار العدوان الأميركي. على أية حال، ستستمر الاعتداءات الأميركية والصهيونية، وعدم التصدّي يشجّعها.
يأتي هذا العدوان الأميركي الجديد على سوريا ضمن الرؤية الأميركية التي تمّت بلورتها منذ بداية الأحداث في سوريا وهي استغلال الفرصة لتدمير سوريا. لم تبلور أميركا أية خطة أو استراتيجية أو برنامجاً من أجل التعامل مع الأزمة السورية إلا في ما يخصّ تدمير الدولة وطناً وشعباً. لقد دعمت المعارضة بكل قوة، وأكّدت على دول عربية لدعم المعارضين بالمال والسلاح والمقاتلين من أجل تمزيق الوطن السوري وتهجير الناس. وهكذا كان. أميركا لها مصلحة بإطالة أمد الحرب، فكلما طال أمدها اتّسع الخراب.
لكن من ناحية ثانية، لماذا أرسلت روسيا صواريخها إلى سوريا إذا كان سيتم التحفّظ عليها في المخازن؟ وكيف تشعر روسيا عقب كل عدوان أميركي يتحدّى دفاعها عن الأرض السورية؟ هناك خلل كبير يتميّز بتردّد روسيا في اتخاذ قرارات يمكن أن تمسّ الأميركيين. لكن الأميركيين لا يتردّدون في العدوان، وسيستمرون في عدوانهم ما داموا مطمئنين أن أحداً لن يتصدّى لهم. مطلوب ألا تتحوّل الشجاعة إلى تهور، وألا تتحوّل المخاوف إلى جبن.
هل تخضع سوريا الآن للتقاسم بين القوتين العظميين؟ روسيا سمحت لتركيا بغزو الأراضي السورية، وجيشها ما يزال موجوداً في شمال سوريا حتى الآن، وهي تطالب الجيش السوري بضبط النفس، وأميركا موجودة في الشمال والشرق السوريين من خلال الكرد، وتحول دون اندفاع الجيش السوري صوب الرقة. نريد أن نفهم اللعبة التي تتغذّى على السيادة السورية، وتحوّل كل الأطراف السورية إلى مجرّد دمى تقبل ما يُخطّط لها.