الصدق ترف لم يعد في متناول الجميع..!
العديد من المثقفين – منتجي الفكر- عجزوا عن الشعور بحدوث التحولات العميقة في حياة المجتمعات، وتورطوا طائعين في اقتناء وإنتاج ثقافة مأزومة، محشوة بالمفاهيم الخاطئة، والحقائق الغامضة والمربكة، وخسروا الحقيقة الموضوعية، بعدما وقعوا ضحايا إعلانهم المشبوه عن رغباتهم في السلطة واشتهائهم لها، وتخلوا بإصرار عن صفة نضالهم من أجل نفيها – الرغبة- وانحيازهم للقيم والمثل الإنسانية، اللتين تمثلان هدف وجودهم – المثقفون- ورفعة طبقتهم، وامتهنوا وظيفة ايدلوجية تابعة للسلطة، وعكفوا على إنتاج ومناصرة الفاشية بكل أصنافها، وامتازوا بضيق فكري وارتباك في الوعي..!
إن فرار المثقفين من مواجهة الواقع، وعدائهم الساذج للمستقبل، ودبلجاتهم المقيتة لخرافات الماضي وأساطيره، جعل منهم أزمة وقوة معرقلة للتجدد والتغيير، وجوقة غمام فكري نتن، ومصدر باعث للايقين، وكذلك للإحباط، والضعف، والتشويش، والتصدع، والحيرة، والشكوك التي لا نهاية لها، فاتصف المثقفون – إلا ما نذر منهم- بهاملتية معيبة، لم تعبر عن الانتصار لقيم أو الانتقام أو حتى المقاومة، بل عن عدمية خاوية..!
إن حرمان أو فقدان المثقفين لامتيازاتهم الماضية، وتخليهم عن صفة الثورية، ومهمة ازدراء التقاليد، وملحمة الرفض المنهجي للواقع، وتحررهم الإبداعي، أثر سلباً على أدوارهم في المجتمع ووسمهم بتبعية ذليلة للسلطات – السياسية والاجتماعية- ونزع عنهم أثواب التقدير والأفضلية، وجردهم من الوعي النخبوي، وجرفتهم الشعبوية واسترضاء الجموع للانحطاط، وسلبت إنسانيتهم، وأعادتهم إلى الرقص المنفرد على الإيقاعات البدائية المستهلكة، وحرمتهم فرصة الوقوف على أصابعهم ومعاينة المستقبل وقراءة ملامحه ووصفه قبل وصوله..!
إن التكنولوجيا أحرجت المثقفين ونزعت بريقهم وعممت ريادتهم..!
قد أخذنا نخطو دون وعي أو فلسفة باتجاه ثقافة جديدة، وأدب بديل، وبدأت تتسرب كتابة غير إبداعية بيننا ، تحركها التكنولوجيا، وتفرزها بتوالٍ لا منطقي، وتطرحها بشكل آني على الجميع، وتحصنها عن النقد لغيابه أو فنائه، وبقدر ثرائها الكمي يتفاقم فقرها الكيفي، ويزداد التسطيح، وتوأد الرؤى الفلسفية والجمالية، يكتسي الإبداع بوحوشية مبتكرة، ليسيطر العبث وتسود الغرائبية، إذ ربما نفيق قريبا على أمسية شعرية لربوت من الجيل الرابع، ونجد انفسنا مجبرين على التصفيق حتى تكل أيدينا لفصاحته ونبوغه ورومنسيته، أو ربما هايكويته..!
مثقفو ليبيا تورطوا في أزمة الهوية، وهزموا سياسياً في حريتهم، وتغلغلوا في وحل معضلات وجودية وأخلاقية، حتى خسروا وجودهم، وتحولوا إلي سلاح تقليدي بأيدي مجالدي السياسة، فقد سقطت القيم وتناثرت المثل، ووسمت الثقافة بالعار وتمازجت بالنخاسة، بعدما لجأ المثقفون إلي الفردانية والبراغماتية، وعاد كثيراً منهم إلي ثقافة الأوليغارشية التي أتقنوها، هرباً من عناءات التغيير ومتاهات المستقبل ومفاجآته..!
مقتنو القيم البلاستيكية، و مرتادو المفاهيم الخاطئة، والانعزالية واللاعقلانية المتداخلون مع الفساد، الراقصون على الحبال العاطفية، لا يمكن أن يكونوا طبقة رائدة، أو يعبروا إلى المستقبل فكرياً، لأن العبور يحتاج قيماً حقيقية وتنويراً وابتكاراً ، وأصالة وفكراً وإنسانية لا تباع في البقالة، ولا تضمخ بالعطور أو تزين بالرموش الاصطناعية والأقنعة ..!
أجزم .. لا يمكن للحياة أن تكون دون قيم ، أما الثقافة فقد صار لها ذلك – أن تكون بدون قيم- بعدما تورطت في الفردانية ومازجتها..!
بقلم ـ عبدالواحد حركات