إصبع على الزناد.. | صحيفة السفير

إصبع على الزناد..

اثنين, 03/07/2017 - 17:08

تحت الموائد وفوقها، يجري الكثير من الاتصالات والترتيبات والقمم العلنية والسرية، وكلها تحدثك عن سلام إقليمي، وعن «صفقة قرن» مع إسرائيل، وعن تعديل يلائم إسرائيل فيما يسمى المبادرة العربية للسلام، وعن تطبيع إسرائيلي بالجملة مع دول خليجية كبرى، بينما كل ذلك أقرب لحملة تمويه وإطلاق ستائر دخان، تتخفى باستعدادات نهائية لحروب وشيكة لن تترك أحدا.
فإلى المشرق العربي، وحيث دارت لسنوات معارك تحطيم وإفناء العراق ثم سوريا، لاتبدو من لافتة ختام للحرب مع تدمير مراكز «داعش» في الموصل ثم الرقة، فقد تنتهي أو تضعف «داعش» الفرعية، لكن «الدواعش» الأصلية في أمريكا وإسرائيل تستعد للحرب الأخيرة.
ففي واشنطن رجل يحكم البيت الأبيض، جعلوه عنوانا لمسخرة يومية، بينما يجري إطلاق يد مؤسسات السلاح والمخابرات والصناعة الأمريكية، وتبدأ دورة جديدة من التوحش، تفوق مثيلتها وسابقتها أيام جورج بوش الابن، ومع تصميم أكبر هذه المرة على حلب ثروات العرب إلى آخر نقطة، والاستنزاف المباشر لاحتياطيات من البترول العراقي، قدر ترامب قيمتها بما يزيد على 15 تريليون دولار، والأدوات العسكرية جاهزة على المسرح، فلم تعد أمريكا تبالي باستمرار أو توقف عمل قاعدتها الأطلنطية في «إنجرليك» التركية، وراحت تنشئ قواعد ضخمة في «عين الأسد» غرب بغداد، وفى منطقة إقليم كردستان الذي يستعد لانفصال نهائي مع استفتاء أواخر سبتمبر 2017، وعلى خط الحدود العراقية السورية في «التنف»، وفي مناطق سيطرة الأكراد شمال شرق سوريا، فقد انتهت أمريكا من بناء قاعدتين عسكريتين كبيرتين في «عين العرب» و»الرميلان»، وأضافت ست نقاط عسكرية أخرى، تستعد لتحويلها إلى قواعد عمل عسكري دائمة، بينها قاعدة إضافية محتملة جنوب درعا، ضمن خطة «تخفيف التوتر» الروسية، مقابل ترك قواعد الغرب السوري في «حميميم» و»طرطوس» لروسيا، إضافة لحق التحكم والترويض الروسي حول العاصمة دمشق، وإطلاق يد موسكو في التصرف بالشمال السوري في حلب وإدلب، ومنح تركيا قطعة من الكعكة في الشمال، وبدعوى «حق الشفعة» للجار التركي في أراضي سوريا، وتمكين أنقرة من مواقع متقدمة في حربها المريرة مع الأكراد، وبالطبع لا يصح تجاهل النفوذ الإيراني وميليشياته، وهو يتم غالبا تحت المعطف الروسي، وطلعات الطيران الروسي، ويحلم بإنشاء طريق متصل من طهران إلى بيروت عبر دمشق، وتحت تصرفه مئات الآلاف من عناصر الحشد الشيعي العراقي ومثيله في سوريا.
وكما تتصرف إيران في المنطقة كأنها ملعب مفتوح، وتلغي الحدود السياسية بجرة قدم، وتفرد حركة جيوشها على مسرح ممتد من قيادة الحرس الثوري الإيراني في طهران إلى قيادة «حزب الله» في بيروت، فهكذا تفعل أمريكا بالمقابل، فليس الهدف محصورا بتقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ، بل الهدف مختلف وأكبر وأعم، وهو أخذ أوضاع قتالية لأمريكا، تمكنها من شن حرب استنزاف طويلة للقدرات الإيرانية، وعبر جيوش وكلاء من القوى الكردية والعربية السنية، وبتمويل سخي من مئات المليارات الخليجية، فخطة أمريكا للحرب الواسعة النطاق، أن يدفع العرب المال، وأن تدفع الميليشيات الكردية والسنية العربية ضرائب الدماء، وأن تجعل من قواعدها العسكرية مراكز قيادة، وأن تنتهي العوائد إليها وإلى إسرائيل، وفي حرب تزول فيها الحدود تماما، وإلى أن يجرى تحجيم إيران وتحطيم حزب الله، في ضربة واحدة متصلة، تجبر فيها روسيا على أخذ موقف الحياد، والاكتفاء بما قدر لها من الغنائم، وعلى أن يتفق الكل ضمنا على إطلاق يد إسرائيل.
وفي مؤتمر «هرتسيليا» الأخير، وهو أهم محفل استراتيجي سنوي للعدو، بدت إسرائيل مستعدة لأداء دورها المقدر في الحرب الكبرى، فقد روجت إسرائيل لرغبة الإدارة الأمريكية في خلق تحالف جديد، يضم دولا عربية سنية ـ خاصة السعودية ـ إلى جانب إسرائيل، يجلب منافع اقتصادية كبيرة لإسرائيل، قدر أفيغدور ليبرمان وزير الحرب الإسرائيلي حدها الأدنى بما قيمته 45 مليار دولار سنويا، والأهم أن تلعب إسرائيل في التحالف دور الذراع العسكرية الضاربة، وضد الأعداء المشتركين، خاصة في إيران وحزب الله، فإسرائيل تعتبر أن «حزب الله» هو أخطر أعداء كيان الاغتصاب الإسرائيلي، ولم تعد تحتمل ما يجري من زيادة قوته، وتضخم أدواره على مسرح المشرق العربي، وتقدر الدوائر الإسرائيلية أن لدى حزب الله ما يزيد على 120 ألف صاروخ متطور طويل ومتوسط المدى، وأن الاستنزاف الذي جرى لقوته في سوريا، لا يقارن أبدا بالخبرات القتالية المتطورة التي صار يتمتع بها، وإلى تكوينه شبكة ارتباط عسكرى عضوي وثيق مع فصائل الشيعة والجيش السوري، وقد ترددت إسرائيل أكثر من مرة في خوض الحرب ضد حزب الله، لكنها تعتقد الآن أن الكيل فاض، وأن ترك حزب الله لحاله، قد ينتهي بتكوين قوة غير مسبوقة تهدد إسرائيل بالفناء، وأنه لا بديل عن تحمل تكلفة الحرب الآن، قبل أن يستكمل تحالف إيران والنظام السوري وحزب الله تقدمه الجاري على الأرض، وانتصاراته المتوالية في البادية ودير الزور ودرعا، إضافة لتطهير حزام دمشق على نحو شبه كامل، وهو ما يفزع إسرائيل، ليس من عودة النظام السوري إلى التمكين مجددا بالطبع، فقد أصبح النظام السوري مجرد عنوان بريد، تصل الرسائل باسمه، لكنها موجهة في الحقيقة إلى «حزب الله» الذي يتوسع ميدان عمله، وبصورة لم تعد مقصورة على جنوب لبنان، بل بعمل دائم متصل، وبمعونة مثابرة لا تكل ولا تمل من إيران، وبهدف تحويل جبهة الجولان إلى ميدان مقاومة مسلحة إضافية ضد إسرائيل، وعلى نطاق أكثر شمولا لجبهة إسرائيل الشمالية، لا يقاس إلى حدود جنوب لبنان وحدها، وهو تحول حربي درامي، تسعى إسرائيل لتعويقه ومنعه ومصادرته، وعلى طريقة شن غارات الثلاثة أيام المتوالية على مواقع جيش النظام السوري في «القنيطرة» على حافة الجولان المحتل، الذي أعلنت إسرائيل ضمه نهائيا إليها كما فعلت في «القدس».
فلم تعد إسرائيل تكتفى بشن غارات متقطعة على سوريا كل عدة شهور أو أسابيع، بل أعلنت الطوارئ العامة على الحدود، وصارت تعتبر هزيمة خصوم النظام السوري كارثة تخصها، وتعلن جهارا نهارا عن دعمها لفصائل إسلامية سنية تكفيرية من «القاعدة» ومن «داعش»، وتتخذ منهم ستارا لوقاية جبهتها في الجولان، وتسعى لإقامة «منطقة آمنة» في قلب الأراضي السورية، وعلى طول جبهة الجولان، وتحول جماعة تكفيرية سورية، تسمى نفسها «جيش محمد»، إلى شيء يشبه جيش انطوان لحد السابق في جنوب لبنان، وإلى أن هرب أفراده إلى إسرائيل مع انتصار المقاومة اللبنانية وحزب الله.
لكن احتياطات من هذا النوع لم تعد تطمئن إسرائيل، وخبراتها السابقة لا تجعلها تثق في صلابة العملاء، ولا تستبعد اكتساح درعها الواقي المسمى «جيش محمد»، تماما، كما جرى اكتساح «جيش لحد» المسيحي، فلا صلة للعملاء بدين محمد ولا بدين المسيح، وإن هي إلا أسماء كاذبة منتحلة للصفات، ما يجعل إسرائيل أقرب إلى فكرة خلع شوكها بيدها، وشن حرب شاملة في لبنان وسوريا معا، وبإغراء الاستفادة من الفوضى الجارية، والحصول على دعم عربي وخليجي بالذات، خاصة بعد اتفاق الطرفين على تصنيف «حزب الله» منظمة إرهابية، وبعد توافر «ضوء أخضر» أمريكي، بل إمكانية مشاركة أمريكية، وربما بريطانية وفرنسية مباشرة في الحرب ضد حزب الله، فأصابع الجميع على الزناد، وقد أطلقت واشنطن إشارة البداية، وتحت عنوان تحذير النظام السوري من هجوم كيماوي جديد.
وبوسعها تلفيق أدلة كالعادة، وكما فعلت مرارا في حرب سوريا، وقبلها في حرب تدمير العراق وخلع نظام صدام حسين، وإن كنا هذه المرة بصدد حرب أوسع نطاقا، تريد واشنطن جعلها الحرب الأخيرة لصالح إسرائيل، وهدفها المباشر استكمال إفناء المشرق العربي برمته، وردع إيران إلى داخل حدودها، ودفع السعودية إلى المشاركة في الحرب ضد إيران، وعلى طريقة السيناريو الافتراضي الذي رسمته مجلة «فوربس» الأمريكية، وعددت فيه مزايا حرب السعودية مع إيران، وعوائدها الفلكية على مبيعات السلاح الأمريكي، ومنح واشنطن فرصة الاستيلاء على أصول «أرامكو» السعودية أكبر شركة بترول في العالم، وتوفير موارد هائلة للخزانة الأمريكية، تسدد ديونها البالغة نحو 19 تريليون دولار، وهكذا تكسب أمريكا وإسرائيل بالجملة، وبمجرد ضغطة إصبع على الزناد، وإشعال حرائق «أم الحروب».
نعم، الحرب على الباب، ولا عزاء لدعاة «صفقة القرن»، التي هي «خيبة القرن» بامتياز.

 عبد الحليم قنديل