التعديلات الدستورية: قراءة في السياق والمضمون | صحيفة السفير

التعديلات الدستورية: قراءة في السياق والمضمون

خميس, 20/07/2017 - 10:43
د. حامد ولد بوبكر سيره

I-السيــــــــاق العــــام..

1- السيــــاق التاريخي
شهدت نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر تحولات هامة على الصعيد العالمي سرعان ما عم صداها كل انحاء المعمورة.
فقد أدت الديناميكية العامة التي ميزت تطور المجتمعات الأوروبية آنذاك إلى تفجير ما اعتدنا تسميته بالنهضة الأوربية.
وهي متغيرات أنارت العقل الأوربي المدفوع بتراكم رأس المال وكذا التطور العلمي والتكنلوجي، حيث ازدهرت التجارة بعد اكتشاف العالم الجديد وتطورت وسائل النقل، وانتشرت الجامعات، وعرف الاقتصاد نقلة نوعية تمثلت في انتشار الصناعات وتضاعف الانتاج.
وهي حيثيات واكبتها ثورة على الصعيدين الثقافي والسياسي، كانت الناظم الأساس لأغلب تشريعات الجمهوريات والملكيات الدستورية حديثة النشأة، ابتداء من نهاية القرن الـ 18.
كل ذلك هيأ الإطار المناسب لهيمنة الطبقة البورجوازية على صناعة القرار السياسي في أوربا ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع اكتمال الثورة الصناعية وتجذر النهج الليبرالي داخل المجتمعات الأوربية.
ومع النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدا المجال الأوربي عاجزا عن احتضان تطوره الذاتي حيث ضاقت الأسواق وانعدم الربح وسادت الرأسمالية الاحتكارية المعروفة لدى بعض مفكري اليسار بالإمبريالية، حينها أصبحنا أمام مظاهر أزمة بنيوية كان حلها المؤقت المد الاستعماري الأوربي المعاصر.
في هذا الظرف بدأت إفريقيا ترتبط وظيفيا بالدوائر الرأسمالية الأوربية، وعلى امتداد هذه الحقبة دخلت البلاد المسماة اليوم بموريتانيا في علاقات تجارية مع الأوربيين نظمتها عدة اتفاقيات وتجلت في تبادل بعض المواد (النيله، السكر، الشاي، الصمغ، السلاح، بعض الأدوات المنزلية وغيرها...).
وتم ربط المجتمع وظيفيا بالطلب الأوربي فضلا عن تعطيل تطوره الذاتي من خلال مسار اعتمد عدة أنماط من عنف نذكر من بينها : 
- عنف اقتصادي استهدف بنية الاقتصاد التقليدي من خلال إغراق السوق المحلية ببضاعة أكثر تطورا تكنلوجيا، مما نافس الانتاج المحلي وقضى على تداوله مع مرور الزمن.
- عنف قانوني ونعني به مختلف المعاهدات والبروتكولات غير المتكافئة التي تم توقيعها بين الزعامات المحلية في بلاد شنقيط والتجار الأوربيين الناشطين على السواحل وضفة النهر. وهي اتفاقيات عمقت التناقضات الداخلية للمجتمع وهيأت الإطار القانوني والسياسي للتدخل الاجنبي.
- عنف عسكري : ونعني به المجهود العسكري بشقيه الردعي والعملياتي الذي عبأته الإدارة الفرنسية من خلال جيشها لحماية الاتفاقيات المشار إليها أو فرضها أحيانا منذ القرن السابع عشر ولاحتلال البلاد لاحقا (حرب الاستعمار الزراعي، حرب الصمغ فضلا عن العمليات التي رافقت التوغل الفرنسي من طلع القرن العشرين).
استمرت فترة الاحتلال حتى 1960 وهو تاريخ يتفق زمنيا مع انسحاب الإدارة الاستعمارية من دول ما وراء البحار في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، بعد التحول الحاصل في العلاقات الدولية وبروز المعسكر الاشتراكي في ظرف اكتملت فيه هيكلة المستعمرات السابقة في النظام الرأسمالي العالمي سواء عن طريق الاقتصاد المعدني الموجه للتصدير أو الزراعي، مثل ميفارما (MIFERMA) بالنسبة لموريتانيا ومن بعدها صوميما (SOMIMA) أو عن طريق نقل التكنولوجيا واستثمارات الشركات متعدة الجنسيات بالنسبة لبلدان أخرى، مع بروز بورجوازية صغيرة همها الربح السريع وشرائح مثقفة تقلد العقل ونمط التفكير الأوربيين.
ومع مطلع التسعينات أنهار المعسكر الاشتراكي وانتصر الغرب الرأسمالي خاصة على الصعيدين الإعلامي والسياسي، حينها بدأت الرسميات الغربية مختلف الضغوط لدمقرطة مستعمراتها السابقة وكان مؤتمر لابول الإفريقي الفرنسي حيث طالب "فرانسوا ميتران" زعماء إفريقيا بتطبيق النهج الديمقراطي وربط بين الدعم الفرنسي ومدى الاستجابة لهذا الطلب؛ فهل كان ذلك حبا في ازدهار إفريقيا؟ أم رغبة في أسجمة تبعيتها على الصعيد السياسي مع مستوى تبعيتها الحاصل على الصعيدين الاقتصادي والثقافي؟
في هذا السياق ولد دستور يوليو91 في موريتانيا الذي وفر الإطار القانوني لتطبيق النهج الديمقراطي التعددي على النمط الغربي.

2- السيـــــاق الدولي الإقليمي والوطنـــي : 
لئن كان دستور 1991 قد حرر في ظرف تطبعه نشوة انتصار الغرب وما ولدته من تداعيات عبرت عنها توصيات مؤتمر لابول المذكور، فإن العالم اليوم يعرف منعطفا هاما يتمثل أساسا في ظهور بوادر عالم متعدد الاقطاب في ظل ما يمكن أن نسميه بالعولمة الموجهة بعد وصول القيادة الأمريكية الجديدة إلى سدة الحكم وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي واكتساح حمى العزوف عن اليسار مجتمعات القارة العجوز. مما قد يكون له انعكاس إيجابي على إمكانية تأهيل القرار السيادي الوطني، والحد من عنفوان العولمة التي اجتاحت العالم منذ نهاية القرن 20. أما على الصعيد الإقليمي فقد عرفت دول المنطقة عدة إصلاحات دستورية غير أن المتغير الأساسي هو تضاعف نشاط التنظيمات الإرهابية الذي بات يؤرق قيادات المنطقة ويطور سياسات التوحد لمكافحة هذه الظاهرة في ظرف ارتفع فيه منسوب التطرف والغلو.

أما على الصعيد الوطني فقد أعلن فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز في صيف 2016 عن نيته اقتراح تعديلات دستورية خلال حوار دعيت إليه كافة مكونات الطيف السياسي، لبته أغلب التشكيلات السياسية فضلا عن الكثير من المنظمات غير الحكومية وناشطي المجتمع المدني وقادة الرأي.
وقد تم الاتفاق على بعض الاصلاحات الدستورية الهادفة إلى مواءمة النهج الديمقراطي لواقع الأمة وخصوصيتها التاريخية.
II- مضمون الإصلاحات الدستورية :
يشمل مقترح الإصلاحات الدستورية المنبثقة عن الحوار الوطني المنظم أخيرا، بشكل أساسي، إلغاء مجلس الشيوخ، استحداث مجالس جهوية مع بعض الإضافات على النشيد والعلم الوطنيين وكذا دمج بعض الهيئات انطلاقا من وعي المشاركين في الحوار لضرورة تكييف دستورنا مع أهداف التنمية وواقع المجتمع على العموم وذلك على ضوء الملاحظات التالية :
• على صعيد إلغاء مجلس الشيوخ وإقامة مجالس جهوية : يرى معظم هؤلاء أن مجلس الشيوخ يشكل استنساخا لتجارب لا تمت بصلة إلى واقع المجتمع الموريتاني. فقد تم إنشاء مجلس الشيوخ المعبر عنه في أدبيات الليبرالية بالغرفة العليا لتحقيق بعض التوازنات داخل المجتمعات الأوربية حديثة العهد بالتمثيل الديمقراطي داخل أنظمتها الوليدة، في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وقد سبق لنا ان تناولنا ذلك بشكل أكثر تفصيلا في مقال تحت عنوان "خطاب النعمة بين تحريف المعارضة وطموح الأغلبية" تم نشره على نطاق واسع في الصحافة الإلكترونية مايو 2016. أما بخصوص المجالس الجهوية فهي أكثر ملاءمة لمقومات التنمية في بلادنا، حيث إن لكل ولاية خصوصيتها ومقدراتها الاقتصادية ومعطياتها الديمغرافية. مما يجعل نقل صلاحيات التصور والتنفيذ والتقييم على المستوى التنموي إلى هذه المجالس أكثر انسجاما مع منطق اللامركزية وأهداف تعميم وتعميق مختلف عناصر التنمية، وهو ما لاحظه فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز وعبر عنه خلال زياراته للداخل.
• على صعيد النشيد والعلم الوطنين : علينا أن نذكر أن التعديلات المقترحة لا تمس جوهر النشيد الوطني كما أشار إلى ذلك فضيلة الإمام ولد حبيب الرحمان، فالمشروع المقترح هو الاحتفاظ بمضمونه وإضافة بعض التحسينات تتمحور حول تمجيد المقاومة والوفاء لها والحث على التضحية في سبيل الوطن، أما الإضافات المقترحة على العلم والمتمثلة في إضافة عارضتين باللون الأحمر فترمي إلى الإشادة بمن ضحوا بأرواحهم فداء للوطن وتجسد اعتراف الأمة لهم بالجميل.
• على صعيد دمج بعض الهيئات الدستورية : يقوم هذا المقترح على دمج المجلس الأعلى للفتوى والمظالم مع المجلس الإسلامي الأعلى ومؤسسة وسيط الجمهورية نظرا إلى تداخل الصلاحيات، وترشيدا للنفقات وانسجاما مع هوية البلاد الإسلامية ودستورها الذي يتخذ من الإسلام مصدرا للتشريع.
III- استنتـــــــاجات عامـــة
لقد عرفت المأمورية الرئاسية الأولى والثانية إنجازات هامة ذات طابع بنيوي في كافة الميادين وخاصة البنية التحتية فاقت على الصعيدين الكمي والنوعي ما تم انجازه منذ ميلاد الدولة الوطنية سنة1960 بأضعاف، خاصة في المجالات التالية :
- على الصعيد الأمني : تم بناء جيش وطني قوي بشهادة كل المراقبين كامل العدة والتجهيز له القدرة على التكيف مع متطلبات الدفاع عن البلاد ومصالحها ومجابهة التنظيمات الإرهابية، حيث تعد الاستراتيجية الموريتانية اليوم في مجال الأمن ومكافحة الإرهاب الأكثر تكاملا وفعالية، وهي مقاربة تعالج الظاهرة في أبعادها الأمنية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، نالت إعجاب العالم وكافة الشركاء؛ حتى أضحت نموذجا يحتذى به على الصعيد العالمي.
- على الصعيد التنموي : لقد حدثت ثورة في المجال التنموي تقوم على استراتيجية شاملة توفر مقومات التطور في كافة المجالات ذات الصلة بتحسين ظروف المواطنين من خلال تنمية الاكتفاء الذاتي ونشر التمدرس وتوسيع التغطية الصحية. فقد تضاعف الإنتاج الكهربائي على سبيل المثال وتم تعميم الطاقة بمعظم التجمعات السكانية بعد أن كانت مدينة نواكشوط عاجزة عن سد حاجياتها سنة 2009، كما تضاعفت الطرق المعبدة وأنشئت الموانئ والمطارات وتضاعف الإنتاج الزراعي وعرف قطاع التعليم نقلة نوعية قامت على تكوين أكثر ملاءمة لواقع البلاد وحاجياتها مع استحداث مدارس للمهندسين ومعاهد متخصصة تستجيب لمعايير الجودة على الصعيد العالمي.
- على الصعيد الدبلوماسي والإعلامي : واكبت هذه الانجازات دبلوماسية نشيطة سمحت بحضور فعال لبلادنا على الساحتين الإقليمية والدولية حيث ترأس فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية التي استضافت انواكشوط قمتها قبل الأخيرة لأول مرة في التاريخ، وقد قاد فخامة الرئيس الكثير من المبادرات سمحت بإطفاء الكثير من الصراعات وتجنب العديد من الاضطرابات نذكر منها وساطاته الناجحة في ساحل العاج ومالي وغامبيا فضلا عن الجهود التي بذلها لتجنب ما حدث في ليبيا؛ مما كان له الأثر الإيجابي على سمعة وهيبة الدولة في الداخل والخارج.
أما على الصعيد الإعلامي فقد أشاد المراقبون بما تتمتع به البلاد من حرية في الرأي وممارسة للحريات العامة.
في إطار هذه الإنجازات تتنزل التعديلات الدستورية، نظرا إلى ما توفره من فرص لتجذير مختلف عناصر التنمية في إطار التصالح مع الذات وترقية محفزات الشعور الوطني.
ولئن كانت الديمقراطية اليوم هي الخيار الأكثر واقعية لضمان حرية الفرد وازدهار المجتمعات، فإنها تبقى تجربة فجرتها المجتمعات الأوربية عبر تطورها الذاتي من خلال مسار دام قرونا بينا أهم حلقاته في مستهل هذا المقال.
وعليه فإن مواءمتها لواقعنا تظل ضرورة تنموية يمليها التاريخ والمصلحة. وبالمقابل يكون استيرادها دون تكييف نوعا من التغريب (L’occidentalisation)المظهري السطحي الكامل، مما قد يحولها إلى نمط من العنف (المؤسسي) يتكامل بنيويا مع أنماط العنف المصنفة أعلاه التي استخدمها الاستعمار الأوربي المعاصر لإخضاع بلاد شنقيط عبر مسار متميز ومتكامل الحلقات والأهداف.
وبناء على ما تقدم، تكون التعديلات الدستورية المقترحة اليوم حلقة جوهرية من مسارنا التنموي تصب في خدمة ترقية الديمقراطية والتحرر، سبيلا إلى امتلاك مقومات الرقي والازدهار في ظل إكراهات الزمن.