ليس معتادا في الحياة السياسية الخليجية أي نوع من الحدّة أو الضجيج والصخب، بل تعودنا ألا نسمع من تلك البقاع إلا أخبار المال والأعمال والأسواق وصفقات المغنين والفنانين والممثّلين والمخرجين؛ ووصل الحدّ ألا تتردد عند القوم إلا عبارات القلق والاستنكار عندما تهتز مناطق أخرى غضبا لغزة أو القدس، وكأن تلك البلاد أشربت فائضا من الحكمة أو الخمول أو الذهول..حتىّ حدث ما حدث.
حدث الذي حدث، وبدا للسطح ما لم نعتده؛ آلة إعلامية جبارة وطواقم دبلوماسية تجوب الأرض، ومال ينفق ذات اليمين وذات الشمال، وحرب اصطفاف غير مسبوقة سلطت سلاح الترهيب والترغيب، حتى لم يكن لجزر القمر وجيبوتي وموريتانيا وأخواتها في الحاجة بدّ من التصريح علنا عن موقفها من طرفي “الخصام”؛ وبقدر ما اندهش المراقبون من سرعة اشتعال الخصومة وامتداد لهيبها، تعجب الكثير منهم من هذا “الانزياح” الكبير عن الخط الهادئ و”الحكيم” المعتاد منهم تجاه أكثر قضايا الأمة حرارة ومرارة كقضية فلسطين !!!
وليس من تفسير لهذا الذي كان يحصل وللذي حصل للتو إلا القول بأن السياسة الخليجية لا تتحرك من تلقاء نفسها، ولا تدور حول مصالح منبثقة من حاجة عامة والتزام بقضية ما، بقدر ما هي دوّارة في فلك الآخر، فتسكن بلمحات مغمازه وتتحرك بدقات مهمازه !!!
وهذا الانقياد للآخر -وأي آخر؟؟- في السكرة والنفرة ليس بالجديد، كل ما في الأمر أن “النفرة الحالية” كشفت سياسة رتيبة لزمها القوم بتفان -ويا للأمانة- ودامت عقودا تمتد من عهود الولادة، وكان موكولا لتلك الكيانات مساحة واحدة للتحرك هي مساحة الصناديق المالية والتبرعات الخيرية. وليبق معيار التحليل هو فلسطين وجرحها القديم في الأقصى أو الجديد في غزة، فكلما أوغل المحتلون الصهاينة في الضرب والمقاومون في الدفاع المستميت وجماهير الأمة في التأييد والانخراط في الانتصار لهم، هرب ساسة الخليج إلى صناديقهم تحت عناوين بديعة وشعارات رقيقة وامتصوا غليان “رعاياهم المباشرين والمذهبيين” بحملات التبرع والصدقات.
أما هذه المرة فيبدو أن السيد الحامي قرر الاستغناء عن سياسة “الصناديق الخيرية” واستبدالها بسياسة “الصناديق المحميّة”؛ أصبح لدى هذا السيد قناعة بأن هذا المال الكثير و”الخطير” ليس بأياد أمينة وعليه يجب وضع اليد عليه وجعله في خدمة الصناعة الحربية والتطبيع “المحتمل” على حدّ تعبير أحد وجوه المستقبل الموعود.
وضمن هذا التوجه الجديد تم إشعال معركة “المال والتمويل” ورميت كرة اللهب بين أيدي ساسة ألفوا خصومات القصور “وزعلها”، فتعالى صراخهم بالشكوى وبلغ الأقاصي تدافعُم المعصيةَ المنكرةَ بتسريب الصدقات لغير مستحقيها !!!
ليس مهما لدى من أشعل الخصومة من المتهم ومن البريء، بل لعله يعتقد جازما أنه لا يوجد متهم ولا بريء، ما يهم هو أن يخدم المال توجها استراتيجيا جديدا، ولنقل حلما قديما في جعل الكيان المحتل يعيش في بيئة سياسية طبيعية لا يعكرها أي تهديد في الداخل أو الخارج، وما التململ الحاصل إلا مخاض ولادة هذا الواقع الشاذ الذي يتطلب درجة قصوى من الإذعان والتبعية و”الضعف”؛ وبناء عليه لا يوجد في خصومة الخليجيين محور خير ومحور شرّ، وليس فيها محور حق ومحور باطل، والوقائع جميعا قديمها وحديثها تبرز أنه بمعيار “الإرهاب” فكلهم متهم، وبمعيار “التطرف” فكل تلك البيئة فرخته وأنتجته، وبمعيار التمويل فكل الصناديق حشيت هناك !!! وبمعيار الولاء فالكل –ويا للمفارقة- حليف وثيق !!!
ما بقي من معيار هو تحديدا “تعميم الفوضى والضعف”، فكما أجهض التغيير الشعبي وأبقي على أنظمة لا هي بالحية ولا هي بالميتة في مشارق العرب ومغاربهم، جاء الدور على الخليج ليذوق من كأس “الفوضى” التي حسب نفسه الساقي فيها دون الشارب!!! وهيهات، وإلا فما معنى إشعال مؤخرة السعودية في اليمن إلّم يكن تمهيدا لهذا “الاستضعاف الاستراتيجي” الذي استهلّ في مصر والحبل على الجرّار.
د. جمال حضري