سوريا إلى أين؟ ليس سؤالاً من أجل النقاش فقط؛ بل حقيقة تدعو لآلاف التصورات والخوض في أعماق الدمار النفسي والأخلاقي قبل التكلفة المعمارية والتهدم الذي طال كل شيء.
بدأت الأزمة كتجربة باتجاه التعبير بغضب والتوق إلى الديمقراطية بغض النظر عن السيناريوهات التي دفعت إلى ذلك، سواءً أكانت مدفوعة أم شريفة أم ملتوية. لكن ما هو مؤكد أن هناك مجموعة بشرية لا بأس بها كانت تشعر بالقمع والظلم وخرجت لتضغط للتغيير والحصول على الحياة الأفضل.
تقلبت الأيام بشكل مرعب، لتقلب المشهد الحضاري الذي جعلنا نتعاطف مع تلك المجموعة البشرية المثقفة والشابة التي قُمعت، لتجعلها عبارة عن مجموعات متصارعة فيما بينها. بكل تأكيد، إنّ عدم النضوج الثوري وكذلك الكبت النفسي وضيق العيش جعل من التلاعب بالناس وتوجيههم نحو صراع دامٍ أمراً سهل المنال، ودخول كل أجهزة استخبارات العالم أمَّن حدوث الأمور بكل سلاسة وقُيدت الناس بالسيناريو المتوقع وهو البيع والشراء وطفا الانفجار الأخلاقي الهائل، الذي جعل من سياسة التجويع التي طالت المواطنين عبر السنين تطفو وتتحول إلى نهم نحو الفساد والسرقة والجريمة.
برزت مشاكل عديدة تدقُّ أبواب العقول، أبرزها المخاض الأخلاقي الذي وصلنا إليه، فالحرب لم تدمر الحجر وتقتل الآلاف من البشر فحسب؛ بل هدمت الإنسان السوري نفسياً وأخلاقياً، ولعلّ ما يؤكد حجتنا الفشل الأخلاقي في دول المهجر والنزوح التي خرج إليها السوريون، فمن الإرهاب إلى السرقة والجريمة، وغيرها من الانحرافات الاخلاقية التي شوهت المواطن السوري الطيب السمعة ما قبل أعوام الحروب.
فقد كان معروفاً عن المواطن السوري المسالم، الخوف والبساطة وحسن الاستقبال والقول، فانقلب هذا كله إلى وقاحة وتباهٍ بالإجرام والشك وسوء التصرف، وكأن الإنسان السوري كان مُشبعاً بالقمع والقتل وسوء الأخلاق في الباطن وانفجر مع انفجار الأزمة!
سوريا إلى أين؟ بعدما تفرَّق البشر، ودُمر الوطن الذي يعاني في الأصل سوء التنظيم في قُراه ومُدنه.. وهل من الممكن أن يُعاد إعمار هذا الوطن؟ وإن حدث ذلك، فكيف نبني المواطن الذي أصبح يعتقد أنه "وطن منفصل بحد ذاته" ويتصرف كما يريد ويبني نفسه بعيداً عن الآخرين ويحلل ما يريد ويحرِّم ما يريد؟
لن نصور المواطن السوري ولا نعمم أنه ذلك المواطن المشرَّد الذي لا تحكمه مبادئ ولا أفكار ولا أخلاق. بالطبع، هناك طبقة من المثقفين والمفكرين ورجال الأعمال المحترفين، لكن هل تستطيع هذه النسبة القليلة منهم إصلاح فساد مجتمع حُقن بجميع أنواع الفساد والعنف على مدى نصف قرن، عبر الرشوة ودور المخابرات ودولة الخوف والأحكام العرفية وقوانين المصالح والطوارئ.
نعتقد أن إصلاح ما يزيد على نصف قرن يحتاج إلى إصلاح جيل كامل، وربما يحتاج إلى عملية نسف كامل للمفاهيم، وإعادة بناء تربية جديدة، والتعويل على جيل جديد يتربى على القيم والنظام والعلم والأخلاق عبر مؤسسات الدول المتقدمة التي لجأ إليها؛ ليعود ويطغى على من حالت دونهم الظروف وظلمتهم الحرب وجوَّعتهم.
نعم.. الحل بكل بساطة، بوجود طاغية مُدعم بكل وسائل القوة البشرية المتطورة لجرّ الآخرين بالقوة نحو النظام والقانون والحق ودولة المؤسسات الحقيقية المسلحة بالفكر الاستراتيجي.
ربما وجود مثل هذا الطاغية المثقف والمفكر الذي يحب وطنه ويأمل تطوره بحق وزرع القيم في شعبه- يُعد الطريقة المُثلى، وإلا فلن تعود سوريا وطناً مغلقاً على الدم والإجرام والنهب والانفلات، ولن يعود المواطن صورةً جميلةً وباطناً قبيحاً، فهذه الأمور انكشفت وما عاد بالإمكان إعادتها؛ بل وليس من الصالح إعادتها.
يبقى كل ذلك في إطار الأماني ومحاولة إيجاد الحلول لهذه الكارثة البشرية التي ظهرت، وإلا فلا قيمة لوطن بلا بشر؛ ومن ثم لن يولد هذا الوطن من جديد.