بعيدا عن الشعارات ومحاولة التحليل والتأويل لما يجري بالقدس. فكل ما يحدث ليس بالغريب . والموضوع ليس موضوع مقدسات ولا اقصى بالذات . الموضوع موضوع حق امام باطل . حق امام ظلم خانق . حق امام خنوع عالم مهزوم . حق امام قيادة فقدت بوصلتها فأضاعت نفسها وشعبها .
هناك حقيقة واحدة يجب الا تغيب عن عيوننا وعقولنا . فما تشاهده عيوننا كاف لتتفتح عقولنا ، ولكننا بحاجة الى بصيرة ، والبصيرة لا تأتي الا بالايمان . والايمان يحتاج الى انسان يستطيع ان يميز بين الحق وبين الباطل.
والحقيقة الحاضرة اننا نعيش تحت احتلال غاشم منذ سبعين عام لم يتوقف لبرهة عن سرقة واستيلاء ما يمكنه من ارض ، ولم يتوقف برهة عن قتل ما يمكنه من نفوس فلسطينية تذكره دائما بأنه آثم، معتدي، سارق،مغتصب ومجرم.
وما جرى بالقدس من اعتداء على المسجد الاقصى ليس الا تسلسل في منهجية البطش والاستيلاء والاغتصاب وفرض الامر الواقع .
وقد تظن إسرائيل أن الشعب الفلسطيني كسلطته ، سيرضى بتنسيق امني وتصريح وبعض المزايا من اجل العيش في كنف احتلال يؤمن له قوت يومه ويذله من اجلها . لقد عشنا جيلا بعد الجيل مرارة الاحتلال على امل يوم نستيقظ فيه على حرية . عشنا احباطات الظلم والذل وخنوع القيادات وبؤس الانقسام الذي شق ظهرنا كشعب وكسرنا وأضعفنا .
وقد نكون في القدس في ارحم حال ، فلم يتركنا الاحتلال منذ مجيئه ، ولم ينكف عن الاستمرار في محاولاته الاستعمارية الاستيطانية العنصرية عن سكان هذه المدينة في كافة الوسائل والسبل الممكنة. والرحمة هنا في تأقلمنا وتكيفنا ووسائل البطش ووعينا وادراكنا الدائم اننا تحت احتلال ، فلم نعش في وهم السلطة والاستقلال الا عن بعد يفصله حاجز. ومن اجل هذا، ان المواجهة بيننا وبين اسرائيل لم تتوقف ابدا ، وقد نكون منحني الرؤوس في معظم الوقت ، فبالنهاية نحن شعب يحاول الحياة . فالخناق الذي يشتد دائما في سبيل العيش بهذه المدينة يزداد الما وحنقا . فلم تترك اسرائيل سبيلا الا سلكته من اجل البطش بنا وتهجيجنا وتهشيمنا ، من فرض ضرائب لا يعلم اولها من اخرها ، وهدم للبيوت ، وغلاء معيشة وشح مصادر ، وأسرلة ممنهجة لكل مرافق الحياة ، فالانسان وصل الى مرحلة صار يستجدي بها التواجد في هذه المدينة.
الا ان اسرائيل تفقد فهم سر تعلق الانسان في هذه المدينة . فبغرورها وجبروتها ظنت ان الانسان الفلسطيني خادم مطواع متسول ، يريد مرافق الحياة الرغيدة التي توفرها اسرائيل لشعبها . وقد تكون المقارنة بين مرافق العيش المختلفة بين القدس والضفة متباينة خصوصا اذا ما فكر الانسان منا بحرية الحركة التي يستطيعها ساكن القدس ولا يستطيعها غيره من ابناء الوطن بالضفة وغزة.
الا ان الموضوع غير ذلك . ان تمسك المواطن الفلسطيني المقدسي الهوى بهذه المدينة ابعد من المرافق ومن معيشة . ان تعلق الانسان المقدسي بتراب هذه المدينة ،بأزقتها ، بصوامعها ، كنائسها ، ومساجدها ، مرتبط بتاريخ روحي يمد الانسان هنا بانتماء اكبر من انتماء المكان والزمان . انه الارتباط بالوجود نفسه . وجودنا هنا هو الحياة، ولا يمكن التحايل على هذا .
والمساس بالاقصى ليس مجرد مساس بالمقدسات . فكل حجر بهذه المدينة يروي قصص تاريخ لن يفقهه المحتل ابدا ، مهما حاول تزييف الحقائق وفرض الامر الواقع . نحن شعب مسالم بطبعه ، والدليل وجود هذا الاستعمار الغاشم . طباعنا الغاضبة العنيفة لست الا ردة فعل للظلم والبغتان الذي لا تكل ادوات الاحتلال عن استخدامه في كل فرصة سنحت او لم تسنح . فهم مكرسون انفسهم من اجل القضاء علينا وتهشيمنا .
نحن شعب تودع الامهات منا فلذات قلبها ولا تعلم لهم عودة. نحن شعب تسقي الارض ترابها بدم ابنائها . نحن شعب يقضي شبابه ريعان عمره في زنازين الظلم والقمع خلف قضبان السجان.
هبة الانسان المقدسي الى ابواب المسجد الاقصى والاصرار على الصلاة خارجه حتى ازالة البوابات الالكترونية ليس الا دفاعا عن حق بديهي في ارثنا . هذا المكان ليس للمساومة . وملكيته ليست للتقسيم ولا للمفاوضات . ولا يوجد انسان بهذه المدينة لا يرى الواقع الذي يحاول الاحتلال فرضه في غياب قيادة حقيقية وانشغال عربي وخنوع دولي. نحن ابناء هذه المدينة نعي مغبة فرض السيادة الاسرائيلية على محيط المسجد الاقصى . فمطامعهم جلية ولا حد لجشعهم . لن نرضى ان يدنس هذا المكان بالصهاينة ، ولن نقبل ان يشاركنا في مكان صلاتنا نجس مستعمر بنى وجوده وحياته على جثثنا وممتلكاتنا واراضينا ، وصار له من بلادنا وطنا يغير علينا به ويدعيه له.
المسجد الاقصى اكثر من مكان عبادة وقدسيته رمزية ،ولكن وجوده سيادي . فهو جوهرة القدس وتاجها . واسرائيل تعي ان لا سيطرة على القدس مهما امتدت سرقة تحت الارض وفوقها. وتهجيجا لكل ما تطال يدها بدون السيطرة على هذا الموقع .
المسجد الاقصى بهذه اللحظات هو نبض كل مقدسي . هو شريان كل فلسطيني يعي قيمة الارض وامتدادها ووصالها بوجودنا . وسيبقى مهما ضعف المنهزمون في هذه الارض وبهذه المدينة رجال ونساء مؤمنين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، وهو العيش بكرامة وانتظار حرية لا سبيل الا اليها . لن يكون الذل هو القانون عند الاحرار.
في القدس احرار مدافعون مرابطون عن حق لن يضيع لطالما نحن له مطالبين.
نادية عصام حرحش