كثير هم الذين انتقدوا تراجع الديبلوماسية التونسية التي اجتهدت من أجل تقريب لمواقف بين الأطراف الليبية المتناحرة و كثير اعتبروا أن الوافد الجديد على قصر الاليزيه ايمانويل ماكرون تحرك في اللحظات الحاسمة ليخطف نتائج التحركات المشتركة للثلاثي تونس ومصر والجزائر لحل أسوا أزمة تعيشها ليبيا في تاريخها المعاصر و ربما منذ معركة التحرير ضد الاستعمار ,و لا شك أن في هذا الموقف الذي قد ينم عن استياء له أسبابه لا يعكس بأي حال من الأحوال نجاحا للرئيس الفرنسي وسيكون من السذاجة الاعتقاد بأن اللقاء الذي جمع بقصر لاسيل سانت غرب باريس الرئيس الفرنسي بكل من رئيس حكومة الوحدة الوطنية فايز السراج والجنرال حفتر الذي حقق نجاحات ميدانية وفرض سيطرته على شرق ليبيا سيسجل نهاية الصراع في الازمة الليبية ودخول هذا البلد مرحلة جديدة من الاستقرار والتوافق السياسي ولو حدث ذلك فعلا سيحسب لماكرون و لا عزاء بالتالي لكل الجهود الديبلوماسية السابقة من الصخيرات الى تونس و الامارات و لا ننسى روما التي كانت حريصة على التدخل في ليبيا ووضع حد لقوافل سفن الموت المحملة بمئات المهاجرين غير الشرعيين الراغبين في الوصول اليها بحثا عن اللجوء .
نقول هذا الكلام دون استهانة أو تقليل من جهد كل الأطراف الإقليمية و الدولية التي تحملت بشكل مباشر ـأو غير مباشر تداعيات الازمة الليبية التي تدخل السنة السابعة على التوالي دون بوادر انفراج وشيك , بل لا شك أن في حضور المبعوث الاممي غسان سلامة الى جانب وزير الخارجية الفرنسي جونايف لودريان اللقاء الذي احتضنته العاصمة الفرنسية باريس الأسبوع الماضي ما يعكس رغبة الرئيس الفرنسي ماكرون على الظهور بمظهر الحريص على دور الأمم المتحدة في الصراع و هو حرص شكليو لكنه يتضمن أكثر من رسالة لاكثر من طرف موجهة للداخل الليبي و للخارج أيضا لاسيما وان ليبيا تشترك في حدودها الواسعة مع ستة دول لا تخفي مخاوفها من تفاقم مخاطر الجماعات الإرهابية المسلحة في ظل حالة الفوضى السائدة في هذا البلد .
وبالعودة الى نتائج اللقاء الذي اختزل في بيان النقاط العشر المعلنة بعد اجتماع باريس الذي يجدد معها لرئيس الفرنسي وبعد أقل من ثلاثة أشهر على دخوله الاليزيه التزامه بالدخول على خط الازمة الليبية والدفع باتجاه حل سياسي تأخر .الا أنه و برغم ما رافق هذا الاجتماع من اهتمام اعلامي فانه لا يمكن تحميله أكثر مما يحتمل و لا يمكن اعتباره اللقاء الأخير قبل طي صفحة الازمة الليبية .تماما كما أن حضور الوسيط الاممي اللبناني غسان سلامة و هو السياسي و المفكر و الديبلوماسي المخضرم الذي عايش أكثر من أزمة من لبنان الى العراق قد لا يعني القليل أو الكثير , و بعيدا عن التشكيك في قدرات أو إرادة الرجل فان الأرجح أن الحل في الازمة الليبية ليس مرتبطا بالاطراف الليبية وحدها ولو كان الامر كذلك لهان الامر و اقترب الفرج و لكن الامر مرتبط بقوى إقليمية و دولية تسعى الى فرض ما تراه مناسبا لمصالحها النفطية والاستراتيجية في ليبيا .ولعله من المفيد التذكير بأن أكثر من مبعوث تداولوا على هذا الدور في ليبيا وبعضهم انسحب قبل أن تكتمل ولايته بعد أن لمس تعقيدات المشهد وبعضهم ظل متمسكا بمنصبه و بما يدره عليه من امتيازات حتى النهاية , وقد تداول على المهمة أسماء من أمثال برناردينو ليون و مارتن كوبلر و الفلسطيني ناصر القدوة ولكل تجربة مختلفة و مقاربة مختلفة للازمة الليبية التي استعصت على الجميع حتى الان ..
وبالنظر الى اعلان باريس الذي جاء تتويجا للقاء ماكرون حفتر والسراج بعد نحو ثلاثة أشهر على لقاء الامارات فقد نص على أن حل الازمة الليبية سياسي و يمر عبر مصالحة وطنية بمشاركة كل الليبيين والى جانب تأمين عودة النازحين و إقرار مسار العدالة الانتقالية والترتيبات الأمنية المطلوبة وفق اتفاق الصخيرات . كما يدعو الاتفاق والى جانب الالتزام بوقف اطلاق النار الى الالتزام من جانب الأطراف المعنية ببناء دولة القانون تكون دولة مدنية ديموقراطية تضمن الفصل بين السلطات والانتقال السياسي السلمي و احترام حقوق الانسان وتوحيد المؤسسات الانتخابية ونزع سلاح .و يظل أحد النقاط الأساسية في الاتفاق النقطة التاسعة التي تنص على اجراء انتخابات رئاسية و برلمانية في أقرب وقت ممكن بدعم و اشراف الأمم المتحدة …و لا شك أنه على أهميته فان هذا الاتفاق لا يقدم جديدا يذكر بالنسبة للازمة الليبية بل ان قراءة متأنية لبنوده العشرة من شأنها ان تؤكد أنه بيان مستنسخ يمكن طبعه و اعتماده في أكثر من أزمة في المنطقة وأنه لو تم تغيير اسم الدولة المعنية لامكن تبنيه وإعلانه في أي لقاء يدرب بشأن الازمات المستعصية حتى الان في أكثر من منطقة عربية تعيش على وقع الحروب الطائفية والازمات و الصراعات الدموية ..و الأرجح أن حرص بيان باريس على ادراج اتفاقات الصخيرات و اتفاقات الامارات و اتفاقات الثلاثي المجاور لليبيا يعكس عدم تفاؤل الأطراف الفرنسية بنتائج اللقاء الذي سيحتاج الى جرأة فائقة من أطراف الصراع الليبي كي تتجاوز اختلافاتها وتتجه الى ما يمكن أن يجمع الأطراف الليبية لانهاء الازمة .ولسنا نكشف سرا اذا اعتبرنا أن القاء باريس يمنح الجنرال حفتر موقعا متقدما بالنظر الى سيطرته على مواقعه في الشرق و تقدمه ميدانيا في تطويق تنظيم “داعش” في سرت و قد بدأ اسم حفتر برغم الانقسامات الداخلية الليبية يفرض في كواليس ولقاءات واجتماعات الحكومات الغربية ,واذا كان حفتر يوصف بأنه رجل القذافي العائد بعد سقوط النظام الليبي فان السراج يبقى رجل الغرب الذي راهن عليه لقيادة حكومة الوفاق الوطني والذي لم يبقى أمامه غير ستة أشهر قبل انتهاء ولايته …
المشهد الخفي الذي لم تعلنه اجتماعات باريس و هي أن تواجد حفتر والسراج مع ماكرون و ما اثاره من استياء لدى الايطاليين الذين يرون أنفسهم أجدر بتنظيم اللقاء أنه قد يكون بداية النهاية للخارطة الليبية الراهنة و ربما يكون منطلقا للتقسيم الفعلي لهذا البلد بقيادة السراج و حفتر وهذا ما لا يمكن تكذيبه ولا تأكيده ولعل الأيام القادمة تنبؤنا بما يحمله دور ماكرون في ليبيا و هو الذي يعتمد في سياسته على وزير خارجيته الذي تولى مهام وزير الدفاع في حكومة هولاند التي كان لها دورها في تحديد المسار الليبي حتى الان …من الواضح أننا لسنا قريبين من نهاية الازمة الليبية و أننا ابعد ما نكون عن استقلالية القرار في واحدة من الازمات المرتبطة بموسم الربيع العربي و أن صناعة القرار العربي في ليبيا كما في سوريا او العراق أو اليمن و حتى في الازمة الجديدة بين دول مجلس التعاون الخليجي ليس بيد أصحابه و حل الازمات السياسية و انهاء الصراعات و الحروب ليس كمثل عقد صفقات توريد السلاح أو غيره من الاحتياجات الاستهلاكية التي تعيش عليها شعوب المنطقة …
اسيا العتروس