هذا مقال عن الانتخابات الرئاسية المصرية القادمة ، بعد مقال سبقه في 15/ 04/ 2017، تطرقت فيه لاحتمال التزوير. وما لم يُشَر إليه فيه هو عدم التفاؤل بحصيلة أي انتخابات جرت بعد 2011 حتى الآن وفي المدى المنظور.. وهذه قناعة ضد طبيعتي، والقصة أنني كنت ممن تحمسوا وذهبوا وأدلوا بصوتهم في استفتاء 19 آذار/مارس 2011، ولم يكن قد مر على اندلاع ثورة يناير غير أسابيع، وكان من المفروص أنه استفتاء على خيارين؛ هما الدستور أولا.. أم الانتخابات أولا.. مع تعديل بعض مواد دستور 1971، وفوجئ المُستَفتون بأنه إعلان دستوري يخالف ما تم الإعلان عنه؛ يومها تعرضت لمحاولة اعتداء من بعض المنتمين للجماعات الدينية، التي تتخذ من العنف وحمل السلاح أسلوبا للترويع وفرض ما يريدون، وهم من تمكنوا من اختطاف الثورة، وظنوا أنني مع خيار الدستور أولا، وكان عليهم منعي بالقوة، وحصلوا على ما يريدون بنسبة 77٪ من عدد من أدلوا بأصواتهم، وعددهم 18 مليونا، ونسبتهم 41٪ من بين من لهم حق التصويت.
يومها اندفع شاب لا أعرفه؛ قوي البنية، وجعل من نفسه درعا صد به أولئك المعتدين، وحال بينهم وبيني، واصطحبني حتى خرجت من المقر الانتخابي سالما وسليما، والغريب أن ذلك الشاب لقي حتفه في حادث بعد أسابيع من ذلك اليوم، وكان أولئك المعتدون ينتمون لجماعات وصفت الاستفتاء بـ«غزوة الصناديق»، ونظرا للوجود المكثف لهم وعنفهم الواضح أيقنت أن التحكم في التصويت تحت التهديد واستخدام القوة لا يبعث على الأمل في تحقيق أهداف الثورة. وقررت مقاطعة الاستفتاءات والانتخابات؛ لعدم الجدوى وإيثارا للسلامة.
ويبدو أن حدسي كان في محله، فكل انتخاب بعد «غزوة الصناديق» أتى بنتيجة أسوأ مما سبقه. وكسرت قرار المقاطعة مرة واحدة؛ في انتخابات 2012، التي فاز فيها الرئيس المعزول محمد مرسي على رئيس الوزراء الأسبق أحمد شفيق، ولأن حمدين صباحي بدأ في الاسبوعين الأخيرين من الحملة الانتخابية محط اهتمام الرأي العام، محققا حضورا متميزا بين الشباب والقوى الوطنية والناصرية والوحدوية والثورية، رغم الإمكانيات المالية المحدودة، والموقف السلبي للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم من القوى والجماعات المؤيدة له، ويبدو أن المجلس العسكري رغب في حَصْر السباق بين فلول الحزب الوطني المنحل و«جماعة الإخوان المسلمين»، ومع ذلك حصد «حمدين» أقل قليلا من خمسة ملايين صوت. وأدليت بصوتي لصالحه؛ باعتباري محسوبا على الكتلة الضخمة التي عبرت عن نفسها في أيام الحملة الانتخابية الأخيرة، وبذلك تمكن من أن يكون في الترتيب الثالث لأعلى الأصوات.
وما كان لـ«حمدين» أن يدخل الانتخابات بعد ذلك، فالظرف الذي أعقب ثورة 30 يونيو 2013 لم يكن مواتيا له، وعندما كتبت رأيي هذا قال عني صحافي من أنصاره «ما قال مالك في الخمر»، ولأكتشف انه صاحب نفوذ يستطيع به وقف نشر مقالاتي الاسبوعية في واحدة من الصحف القاهرية المستقلة؛ كانت تعتبرني أحد كتابها، وبذلك النفوذ سقط الفرق بين عصا المصادرة الحكومية وسوط المصادرة «الثورية»؛ قلت وقتها يا قلبي لا تحزن!!..
المهم أننا على بعد شهور قليلة من انتخابات الرئاسة المصرية.. وما زال التشاؤم سيد الموقف وزاد معدله، ومن المتوقع أن تكون الانتخابات الأسوأ في التاريخ المصري المعاصر. ومع ذلك أراها جديرة بالاهتمام؛ قد تؤدي إلى مفاجآت ونتائج غير متوقعة، خاصة أنها تجري في واقع بلا أفق وفراغ سياسي قاتل. في نفس الوقت فإن الحراك السياسي والاجتماعي أفرز كتلة جامعة؛ توصف عادة بـ«الكتلة التاريخية»؛ لا تخشى المسؤولية، وقادرة على التخفيف من وطأة التيه في صحارى السياسة المصرية الجرداء، وهي في أمَس الحاجة لماء يرويها؛ فتُزهِر «ورد الجناين»، كما أزهرت في 2011. مع هذا فهي كتلة لا تملك إمكانية إنتاج إعجاز يناير بتلقائيته، وليست لديها فرصة تنظيم خروج على غرار ما جرى في يونيو؛ بجاذبية نداء الانتخابات الرئاسية المبكرة، الذي استجاب له الملايين، وسخرت منه «الجماعة»، وحقرت من شأنه، ودفعت الثمن!!.
معايير النجاح هذه المرة تختلف؛ فروح يناير التلقائية غائبة، وتنظيم يونيو وما صاحبه غير ممكن، والثورة ما زالت مؤجلة، والحشد أضحى مُحَرَّما ومُجَرَّما. والمسموح به هو القبول بـ«التأديب» والإذعان لـ«الانتقام»؛ وهما نهجان حاضران طوال الوقت وتمارسهما «إدارة المشير» بكفاءة منقطعة النظير، وتُجَمِّلهما بوعود لا يمكن أن تكون بديلا عن المصادرة على الحريات وتركيز السلطات في يد» المشير».
والكتلة التاريخية التي نعنيها «متربصة»؛ بلهجة أشقائنا في تونس؛ أي مؤهلة ومدربة. ولا يغيب عنها أن المعركة الانتخابية توفر لها مناخا لم يتوفر تحت «إدارة المشير»، التي تفضل الارتجال والعشوائية والفردية في إدارة البلاد، وتصر على ممارسة الحكم بلا برنامج، وفي مقدور هذه «الكتلة التاريخية» صياغة برنامج وطني جامع، وعلمي شامل؛ يغطي مجالات السياسة.. والاجتماع.. والاقتصاد.. والثقافة.. والتعليم والأكاديميا والبحوث.. والتنمية.. والتنظيم والإدارة.. والشؤون العسكرية والأمنية.. والحقوق القانونية والدستورية؛ ومؤهلة لتغيير وضع «شبه الدولة»؛ بتخلفه وقصوره وعجزه وفساده، وبث الحيوية في شرايين الدولة المصرية العريقة على أسس خلاقة ومتقدمة؛ أساسها المواطنة تحت رايات «جمهورية ثالثة»؛ متجددة ومتقدمة ومنتجة؛ تعبر عن عصرها وتعمل من أجل شعبها، وتحتل مكانتها في أعلى سلم الجمهوريات المتعاقبة؛ بداية بعام 1953؛ وتعدد مضامينها وأشكالها.
كانت الجمهورية الأولى ثورية؛ اختطِفتها جمهورية ثانية «مضادة» من أيار/مايو 1971، وقضت على الجمهورية الأولى بعد تشرين الأول/اكتوبر 1973، وكانت وما زالت مُعَمرة وباقية؛ وتعددت صورها وتداخلت خطوطها؛ فهي مرة يمينية إنعزالية شبه رأسمالية، وأخرى استبدادية عائلية شبه وراثية، وفي مرحلتها الثالثة انتقالية مرتعشة بعد كانون الثاني/يناير 2011؛ وتم تداولها بين المجلس العسكري، و«حكم المرشد»، وإدارة عدلي منصور، وصولا لـ«إدارة المشير»، وجميعها حرص على العمل تحت رايات النظام القديم؛ أي «الجمهورية الثانية».
وظهور «جمهورية ثالثة»، يضع مصر على أعتاب مرحلة متقدمة؛ يتغير فيها الخطاب السياسي؛ فيعتمد الوعي والنضج والعمق، ويعيد أمل التغيير والثورة والحكم الرشيد، ويفتح أبواب المستقبل بعد طول انتظار.
وإذا كانت «إدارة المشير» مصابة بفقر دم سياسي وأنيميا وطنية، فإن القوى «المتربصة» – بالمفهوم التونسي – ذات أفق سياسي أوسع، ولياقتها الوطنية أعلى، وتستطيع استبدال الضنك بالبحبوحة، والضيق بالانفراج، والجهالة بالمعرفة، والخرافة بالعلم، والفساد بالنزاهة، والفوضى بالانضباط، والعشوائية بالتخطيط، والارتجال بالثقافة، وإذا كانت المواطنة هي صلب برنامجها الوطني المأمول، فلا يمكن لها أن تكون بمعزل عن قضية التغيير والثورة والحكم الرشيد، ولا على حساب قضية الحريات والديمقراطية ودولة القانون، وعليها مواجهة الإرهاب، ورفض «التأديب» و«الانتقام»، وعدم الرضوخ لاختيار الفاسدين والمفسدين، وذوي العقد السياسية والعاهات العقلية والنفسية؛ عدم اختيارهم لتحمل المسؤولية، ووقف العداء الدائم للمواطنين، والتخلص من «الفشخرة»، والتبديد غير المسؤول، والصرف السفيه، فالبلد مأزوم ولا يتحمل كل هذا العبث!!
محمد عبد الحكم دياب
٭ كاتب من مصر