يعتصرني غيظ شديد وأنا أسمع خطاباتٍ وتحليلاتٍ يتسمّى أصحابها بالألقاب ويتباهون بالتخصصات ثم هم يندفعون في غمرة التهويل وينخرطون في سياق التطبيع مهما كلّفهم ذلك من بخس حقوق الناس، أو قل العدوان على مقامات أناس وأي أناس !!! ولأن صيحة الزمن الحاضر وموضته الإعلامية والسياسية هي "مكافحة الإرهاب"، فقد هيّج العنوان أبواقا وأدوات، وجنّد خدما بحجم دول وإمارات !!! وليت شعري، ما الذي جدّ عند القوم من الحقائق حتى انتبهوا فجأة للخطر الداهم والشر الكامن؟ ألم يكن عمر المختار إرهابيا عند الطليان، وأمين الحسيني مخربا وعميلا للنازية عند الصهاينة، وجبهة التحرير وجيشها "فلاّقة وإرهابيين" عند الفرنسيس، وعبد الكريم الخطابي انفصاليا وأداة شيوعية عند الإسبان وهلم جرّ؟ ما كان ينبغي لرجل عاقل من قومنا يعرف صفحة من الماضي القريب أن ينزلق بالقلم أو اللسان إلى المسخرة المصطنعة والمعركة المكذوبة ضد "الإرهاب"، لأننا بكل بساطة جرّبنا الوصفة من زمان، وخبرنا الورطة قبل الجميع، وأيقنا أنها ليست معركة نظيفة تحفظ للمقاومين مشروعية سلاحهم، وتأخذ من المعتدين مبررّ ظلمهم، بل هي هاوية حُفِرت أساسا للمظلومين كي يُقبروا مع حقهم، ويُطاردوا بسيف القوانين الزائفة حتى يسلّموا لظلمتهم، ويستقيلوا من مظلوميتهم... وليس أدلّ على خبث هذه المعركة من محاولة جرّ كل الأحرار إلى حمئتها، وتوريط كل أعداء الصهيونية والتطبيع فيها، حتى يتم التخلّص من كل معوقات التطبيع، وتصفية كل عناصر الصمود والاستماتة في وجه الانحلال الجارف؛ أن تفتح دول استعمارية قوائم للإرهاب فهذا مما ألفناه، ولكن ما يذهب بعقل الحليم أن تعمدَ دولٌ عربيةٌ إلى ذاتِ المسلك المخزي، وتدشّن هي الأخرى قوائم بمعارضيها ومناوئيها، وتبيح للعدو المتربصّ حياتَهم ومصيرَهم...ربّاه أي عصر نعيش؟ وأي "أولي أمر" نطيع؟ وقد اختلط العاقل بالهابل، والأصيل بالدّسيس، واستحكم الرويبضة.. ماذا يضيف الصهاينة إلى هذا الصّلف الغريب بين ذوي القربى والعداوة المستحكمة بين ممالك العرب وقبائلهم؟..ليس لديهم ما يضيفون غير اصطياد خصومهم الحقيقيين..أولي المبادئ وقادة الجماهير وعلماء التحرير والتثوير.. أن يكون القرضاوي على رأس الإرهاب عند الصهاينة فهذا هو المعقول والمقبول، أما أن يكون على رأس ذات القائمة عند كيانات عربية فهذا المدهش والمستغرب مهما كان مبرّر الخلاف والنزاع السياسي..ماذا يعني اتفاق الصهاينة وبعض بلاد العرب على تصنيف نفس الأشخاص ونفس المنظمات في قوائم الإرهاب؟ هل غادرنا "زمن الاتهام بالتخابر مع الصهاينة" إلى زمن "الاتهام بالتخابر مع القرضاوي وحماس"؟ هل نَعِي أي هوّةٍ سقط فيها النظامُ الرسمي العربي؟ وهل ندرك أي مهانة انحدر إليها حكام هذه المرحلة؟ هل يجد هؤلاء في صمت الشعوب واستضعافها واستمالتها سببا يبرّر هذه البيعة المشينة للعدوّ؟ ترى لو سافر القرضاوي غربا، ورطن لسانه بلغة غربية، ونزع عمامة الأزهر، واستهجن أفعال المقاومة، واستكان إلى أولي الأمر الغادين والرائحين، أكان يصيبه ما يصيبه الآن؟ ولأنه اختار الشرق وصحراءه، واستنبت من الخلاء مريدين وورثة لعلمه ومنهاجه، وأصر بحق العلم وشرف الشريعة أن يقف مع المظلوم أينما كان ولو في فلسطين !!! لأجل ذلك تترصّده المهالكُ وتتصيده المكائِد.. وعودا على بدء، ليس ما يؤلم أن يتهم الصهاينةُ رؤوسنا ومقاومينا بالإرهاب، فهذا طريق عرفه أصحابه واختاروه عن قصد وإرادة، وهو أيضا الشّرف الذي يتمناه كل حرّ؛ لكن المؤلم حقا، أن تنتصب منابر لها حرمة، وأقلام يُظنُّ بها العقلُ والرجاحةُ لتسويق "خطاب الإرهاب والتطرف العنيف"، وتسكت عن "الإرهابيين" سرّاق الأوطان والتاريخ، وتتخذ منهم حلفاءَ مأمونين وجيرانا مسالمين !!! د. جمال حضري