ذهب تبون وجاء أويحيى وفق صلاحيات دستورية لرئيس الجمهورية، إلى هذا الحدّ كل شيء عاد؛ لكن بمجرد أن نعرف أن الوزير الأول المقال “نال ثقة الرئيس″ منذ ماي الفارط، ولم يلتقط أنفاسه بعد عرض برنامجه على “ممثلي الشعب” في البرلمان وبداية تطبيقه حتى سحبت منه “ثقة الرئيس″، وبمجرد أن نعرف أن الوزير الأول المعين متعوّد على “نيل ثقة الرئيس″ وعلى المنصب، ندرك أن الأمر غير عاد تماما.
حالة الاستعجال التي تطبع السياق لا تحتاج إلى جهد، استعجال الإقالة واستعجال التعيين، وهذه علامة واضحة على وصول حالة التأزم درجة قصوى من الاستحكام، فتعيين تبون واكبته حملة إعلامية جعلت منه “المخلّص” من حالة الركود والتردد التي طبعت آخر عهد سلال، ورُبط مجيءُ الرجل باستكمال برنامج الرئيس على صعيد السكن خاصة، ومن ثم توقّع الجميع عمرا مديدا له في “قصر الدكتور سعدان”، وها هو رأسه يقطف قبل أن تينع له إنجازات يقول عقبها ما قاله سلال مغادرا أنه “مرتاح لما قدمه للجزائر”، فما الذي استدعى هذه النهاية المؤسفة لرجل كان مرتاحا في قطاعه، وأحسن فيه حتى قدّم له “صاحب الثقة والسلطان” وسام العشير تقديرا له؟
المشهد الثاني للاستعجال المريب هو الالتفات مرة سادسة لـ”سي احمد”، الذي كادت رأسه أن تقطف في أزمة حزبه العاصفة قبل سنوات، ولكنه استقال وانحنى للعاصفة، واكتفى بوظيفة إدارية في الرئاسة حتى عاد اليوم للحكومة، ولكن في أي سياق؟
يبرز تعيين أويحيى خيارا مستعجلا لمواجهة ظرف دقيق للغاية، يسعى من خلاله “صاحب القرار” إلى طمأنة الفريق الهائج والثائر على الوزير الأول المقال، والسؤال المطروح هو: بم يطمئن أويحيى هذا الفريق؟ والجواب قد يكون ضمنيا في التعديل الطفيف على الطاقم الحكومي والذي مسّ أساسا وزيري التجارة والصناعة “ساسي” و”بدة”. هل الزلزال الحاصل كله “اقتصادي” إذن؟ ليس الأمر كذلك، لأن الوافد القديم الجديد رجل سياسي، ورئيس حزب شقيق للحزب الحاكم، ومن ثم فإن التعيينَ جوابٌ لأسئلةٍ سياسيةٍ أكثر منه جوابا اقتصاديا.
هللت إحدى الصحف التي تصنع الحدث بتسريباتها اليوم لقدوم تبون قائلة: “صديق الزوالية (أي الفقراء) عبد المجيد تبون ..وزيرا أوّلا”، ولأن الأمور بأضدادها تتضح، هل نهللّ اليوم ونقول: “عدوّ الزوالية.. أحمد أويحيى وزيرا أولا”؟ ليس في مسار الرجل ما يكذّب هذا الادّعاء، فقد عرف بقراراته غير الشعبية وتبنيه للخطاب الصادم ورفضه ما يسميه الديماغوجية، وعلى هذا الصعيد يمكن اعتباره نقيضا لسلفه، بحيث سيجعل أعباء التراجع الاقتصادي على كاهل الشعب بدل أن يتحمّل أغلبها رجالُ الأعمال من خلال الاستثمار والانضباط الضريبي.
ولأن الشجرة لا ينبغي أن تغطي الغابة، فإن الشق الاقتصادي ليس إلا مساحة امتدت إليها التجاذبات والخلافات، أما نطاق النار فهو ولا شك “الاستخلاف ومحاوره”؛ يسعفنا الـ”سي احمد” في أول تصريح له بعد التعيين “المستعجل” بالقول: “أعلن عن ولائي للسيد الرئيس″، وكلمة الولاء مفتاح السياق كلّه، وقديما قيل: “يكاد المريب يقول خذوني”: هي معركة ولاء تدور رحاها، وكل من يُشتَمّ منه زوغان عين أو ميلان هوى، هوت عليه العقوبة من حيث لا يحتسب، وهذا ما يبدو أن السيد تبون قد أُخذ به أو رمي به على الراجح، فهذه تهمة تكفي لرمي صاحبها في غياهب الإذلال والنسيان.
ولأن الأمور لا تجري بهذه الحدّة في هذه “الضفة من الجزائر”، فإن الوزير المقال أيضا لم يبخل بإعلان فروض الطاعة والولاء ولو بعد فوات الأوان، معلنا في ختام مهمته القصيرة أنه “سيظل وفيا للرئيس″، وهنا نفهم أن هذا المحيط ذو نسيج خاص، لا تُسمعُ فيه لوعةُ محزون أو صرخةُ باك، فما أسرع أن يضحك الموجوع ويأسف المبتهج، ولا تأنس فيه لمنتصر أو تنفضّ عن منكسر، فسرعان ما يهونُ المنتصر ويَعزَّ المنكسر.
هي مظلة الولاء إذن تغطّي المشهد كلّه، والمرحلة الدقيقة هي إذن مرحلة الانخراط كليّا في الصفّ، ومرحلة حبس كل الطموحات التي تتجاوز الحدّ المسموح به وهو “منازعة الأمر أهله”؛ ولأن الخصومات محتدّة ومتعددة ومتداخلة، تشتدّ مظاهر الزلفى حتى تصبح فيها الوشاية والنميمة تجارة رائجة، ويكفي لقاء هنا وصورة هناك لكي يودي بمصائر ويعجّل بدواه.
ودعك من الخطوات الدستورية، وحق ممثلي الشعب في إبداء الرأي، وتغليب مصلحة الشعب “صاحب السلطة” على ما عداها، فكل هذا لا يستحق التفاتة إذا كان الأمر متعلقا بمصير مقاليد السلطة تجاه أي تهديد، فحيث تمتدّ التهديدات إلى هذا النطاق يتم استعجال خطوات تدع حليم القوم حيرانا، وتضرب أخماس القوانين في أسداسها، بله أن ترْعَ حرمة شعبٍ أو مَقامَ مُسيّرٍ مدّ للناس في أملهم، وأذاقهم شيئا من الطمأنينة والجديّة.
لا يذهبن الخيال بنا مذهبا بعيدا فيقولَ أحدُنا: لم تعد السياسةُ تُصنعُ عند الحلاقين أو “الدلاّكين” حتى تكون للوشاية أسواق وللنميمة ألسن وآذان، فللقوم أجهزة مدربة على التقاط الهمسة وتتبع الوسوسة، وأقول كلاّ، بل لازالت تصنع في فضاءات أحقر ونطاقات أضيق، ولازال لشياطين الإنس والجن في تفاصيلها أعين وأياد!!!
جمال حضري