تتجه أنظار العالم هذه الأيام تجاه قبلة المسلمين حيث تحتضن مكة المكرمة أكبر تجمع بشري يعرفه العالم بمناسبة أداء مناسك الحج، و يعد الحج ركنا من أركان الإسلام الخمسة فقد قال تعالى ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)(ال عمران ) ، ومقالنا هذا ليس الغرض منه شرح مناسك الحج فذلك أمر لست مؤهلا له، و إنماالمقال محاولة لتسليط الضوء على بعض المقاصد السياسية التي من أجلها فرض الحج ، والتي أصبحت شبه غائبة لدى أغلبية المسلمين..
من المؤكد أن الحج هو شعيرة دينية الغرض منها التقرب إلى الله و تزكية النفس وبدل الجهد المادي و المعنوي و الجسدي تقربا لله على المستوى الفردي، لكن على مستوى الجماعة المسلمة فإن الحج له حمولة سياسية و حضارية بالغة الأهمية، فمكة المكرمة والمدينة تحتضن ملايين الحجيج من جنسيات مختلفة و من ثقافات و أصول متباينة توحدها العبودية لله و التبعية لدين الإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام،فالأصوات تتعالى بالتهليل و التكبير بالرغم من تباين مخارج الحروف و اختلاف اللهجات لكنها كلها تعبر عن نفس الغاية و المقصد، فهذا التجمع الإنساني هو رسالة بالغة الأهمية لكل أولئك الذين يعادون الإسلام و يطلقون الاتهامات جزافا على هذا الدين بكونه دين السيف و التطرف و العنصرية و هو برئ من ذلك ...
فاختلاف ألوان و ألسنة وثقافات الحجيج،مع توحدهم في الهيئة و اللباس و المكان والزمان و الشعائر يجعل دين الإسلام دين الفطرة ودين المساواة بين الجميع فلا فرق بين عربي و لا عجمي و لا أبيض و لا أسود إلا بالتقوى مصدقا لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) (الحجرات)، انه دين الحوار و التعارف ، فالحج مؤتمر سياسي و حضاري و ثقافي بامتياز، بل أن الله امتن على المسلمين بنعمة الوحدة و التآلف و التآخي عندما قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) ( آل عمران)...
و ما أحوج أمة الإسلام إلى هذه الوحدة ونبذ الفرقة بين المسلمين، فاليوم تقصف اليمن بأسلحة السعودية وحلفائها في الأشهر الحرم، وربما جزء من هذه الأسلحة ممول من أموال حجاج بيت الله.. و لم تتورع السعودية وحلفاءها في احترام قدسية الحج ووقف سفك الدماء، وهو مايعبر حقيقة عن علة ما تعيشه الأمة..
فما تعيشه الأمة من مآسي هو ليس نتاج التمسك بتعاليم الإسلام السمحة بل على العكس من ذلك، فهو نتاج للابتعاد عن حقيقة وجوهر تعاليم الإسلام ، انه نتاج للاحتكام للأهواء و التطلعات الشخصية في السيطرة و احتكار المناصب و المكاسب من قبل الطبقات المستحكمة في مصير الشعوب العربية والإسلامية ...
للأسف الأنظمة الحاكمة في مجمل بلدان العالم العربي و الإسلامي ، نصبت نفسها لمحاربة الإسلام ، و محاربة قيم هذا الدين الذي جاء لمناهضة كل أشكال العبودية لغير الله، هذا الدين الذي جاء ليعلي من شأن الحرية الفردية و الجماعية مصداقا للقول المأثور "متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" ، و أي عبودية أكبر مما تعيشه الشعوب العربية والإسلامية ؟! فهي تعاني ويلات الاستبداد السياسي و قمع الحريات، و تفشي الفقر، و غياب العدل بل غياب الأمنالإنساني بشكل عام ...فدماء المسلمين أصبحت تسفك بدون وجه حق، بل البلدان تدمر و الشعوب تشرد وتهجر، استجابة لنزوات شخصية من قبل حكام أعلنوا العداء لدين الله و نصبوا أنفسهم طواغيت يعبدون من غير الله..
لقد كان الحج منذ أن أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بالنداء للحج، تجمعا دينيا ومؤتمرا سياسيا و محفلا تجاريا و موعدا لعقد التفاهمات و تسوية المنازعات، وقد توطد هذا الدور و توسع مع مجئ الإسلام فكلنا نذكر بيعة العقبة وصلح الحذيبية و هي اتفاقات سياسية الطابع أسست لدولة الإسلام و التي امتدت لأزيد من 14 قرن، فهذه الاتفاقيات تمت في فترة الحج و على مشارف البيت العتيق، وقد استمر هذا الدور السياسي للحج في عهد الخلفاء الراشدين فقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجتمع بولاته في فترة الحج ويباشر شؤون المسلمين في مختلف بقاع البلاد الإسلامية ، انه فرصة لرفع الظلم وإقرار العدل بين الحاكم والمحكوم..
فأي وجه للمقارنة بين اليوم و الأمس، فاليوم يجتمع المسلمون في بقعة واحدة لكنهم متفرقون إلى شيع شتى،يقاتل بعضهم بعضا ويحاصر الجار جاره، و ذلك في مخالفة صريحة لعقيدة "الولاء و البراء" فحكام المسلمون يتحالفون مع أعداء الإسلام لضرب الإسلام و المسلمين ،تحث شعار مكافحة الإرهاب و التطرف و نشر قيم التسامح و الحوار ..و الواقع أن الغرض الرئيس هو قمع الشعوب وكبت حريتها و تكبيل إرادتها في اختيار من يحكمها و كيف يحكمها و على أي منهج تسير..
على علماء و عقلاء المسلمين أن يتحملوا مسؤوليتهم تجاه الله، و تجاه الأمة التي تنزف من الفرقة و التشتت ، فتوحيد الكلمة والاجتماع على الحق أصبح مطلبا لا مفر منه للخروج من دوامة سفك الدماء و تدمير الأوطان،بل و محاولة تحريف دين الإسلامفالأصواتأصبحت تتعالى لتغيير شرع الله، و الجدل التونسي حول المساواة في الإرث بين الرجل و المرأة دليل على ما نقول ، فانسحاب أهل الرأي و الدراية عن المشهد العام و إحجامهم عن قول الحقيقة وقيادة الأمة يقود الأمة إلى المجهول و الحج فرصة لإنقاذ الأمة من سيرها ااحثيث باتحاه الهاوية. .."هذا بيان للناس وهدى و موعظة للمتقين" (الآية 138 آل عمران) ..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
د.طارق ليساوي*إعلامي و أكاديمي مغربي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي