تحتفل الأمة الإسلامية بعيد الأضحى المبارك، حيث تتوحد الأمة من شرقها إلى غربها في إحياء هذه الشعيرة الدينية العظيمة المكانة و العميقة الدلالة، فيوم النحر يحمل دلالات بالغة الأهمية و رموز سيميائية ينبغي استحضارها و استيعابها واستخلاص العبر منها ، فنحر الأضحية في موسم الحج هو تجسيد لرؤيا النبي إبراهيم عليه السلام عندما رأى في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل عليه السلام ، إذ قال تعالى في كتابه العزيز : ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)(سورة الصافات) و نستخلص من هذه القصة العديد من الدلالات التي نفتقدها اليوم في حياة الفرد و الجماعة ولعل أبرزها: 1- الكل يعلم أن إبراهيم عليه السلام رزق الولد هو و زوجته بعد طول انتظار وفي سن ميئوس منها، ولذلك فإن مجئ الولد في هذه الفترة مدعاة إلى التمسك به و إيثاره على النفس ، فكيف يذبح ابنه بعد أن بلغ السعي؟ لكن إبراهيم عليه السلام استبدل الذي هو خير بالذي هو أدنى ، فحصل على نعيم الدنيا و الآخرة معا..فمن" طلب الموت وهبت له الحياة " فسيادة داء الوهن بجسد الأمة و الحرص الشديد على العيش دون نظر إلى غاية أو هدف جعل حياة الأفراد صفرا و الأمة غثاءا ، و هذه الأمة أمة رسالة أخرجها الله تعالى من رعي الغنم و الابل لتصبح راعية للأمم ..فتخلت عن رسالتها فأصبحت مستباحة الدم والعرض... 2- إبراهيم عليه السلام وهو الشيخ الكبير و النبي المرسل لم يتورع في مشورة ابنه في مسألة الرؤيا و إشراكه في اتخاذ القرار رغم أن الابن لم يتعدى على الأرجح العشر سنوات ..فمن منا اليوم يشرك أبناءه في اتخاذ القرار؟ و من هذا الحاكم الذي يستمع لرأي الشباب..؟ أليس مصير الشباب العربي هو التنكيل و الاعتقال و تكميم الأفواه؟ 3- امتحان الذبح جاء بعد معركة عقدية وفكرية خاضها إبراهيم الفتى مع قومه و مع الملك الظالم المتجبر النمرود، فانتصرت دعوة إبراهيم و كتب لها البقاء إلى يوم الدين بينما انهزم معسكر الشرك و الظلم ، وكذلك سينتصر الحق على الباطل و لو بعد حين .. إن استحضارنا لتاريخانية و سيميائية قصة الذبح الغاية منه إسقاط ذلك على واقع الأمة الحالي، واقع لا يختلف كثيرا عن ما مر به إبراهيم عليه السلام، فالظلم و الظلمة لازالوا ينكلون بالأحرار، و لازالت عبارة "ما أريكم إلا ما أرى" سائدة في أوساط حكام العديد من أقطار العالم العربي و الإسلامي، ولازال السجن و الطرد و التشريد و سفك الدماء هو ذات الأسلوب الذي يواجه به الأحرار و أصحاب الفكر .. ما أشبه اليوم بالأمس و ما أعظم القرآن، هذا القرآن الذي يحمل كنوزا معرفية و توجيهات ربانية كفيلة بإنقاذ الأمة من تيهها الذي طال في الزمان واتسع في المكان ، فمآسي الأمة في عيدها كثيرة، و كل سنة تشهد رقعة المآسي اتساعا و تمددا، فبعد مأساة فلسطين المغتصبة ظلما و عدوانا من قبل الصهاينة منذ مطلع القرن الماضي، ومأساة الصومال و اريتريا و لبنان و أفغانستان و العراق واليمن و ليبيا و سوريا ، لائحة الدماء و الدمار لا تكاد تنتهي، هذا دون أن ننسى شعوبا و أقليات إسلامية تعاني الظلم والاضطهاد في مشارق الأرض و مغاربها .. و من ضمن هذه الأقليات مسلمي الروهيجيا في "بورما"، و الذين يقدر عددهم بحوالي 800.000 روهينجي في إقليم أراكان و صنفتهم الأمم المتحدة كأكثر الأقليات اضطهادا في العالم، وقد فر العديد منهم إلى "البنغلاديش" و "التايلاند" هروبا من التنكيل و الاضطهاد الذي يتعرضون إليه من قبل الأغلبية البوذية، في ظل صمت دولي و إسلامي و عربي مريب.. و الجدير بذكر، أن مستوطنات المسلمين في "أراكان" ظهرت مع وصول العرب هناك في القرن الثامن الميلادي، ويعتقد أن السلالة المباشرة من المستوطنين العرب يعيشون في وسط مركز "أركان" بالقرب من بلدتي "مرايك يو" و "كيا وكتاو"، فهؤلاء المنكل بهم هم أحفاد العرب يدينون بالإسلام السني، فأين هم حكام الخليج وغيرهم ممن يعقدون الأحلاف لحماية العالم الإسلامي السني من التمدد الشيعي؟ فلما لا يحمون هؤلاء المسلمين السنة من مذابح البوذيين وأهل الشرك ، و لماذا سياسة الكيل بمكيالين ؟ لماذا بورما غائبة على شاشات الإعلام العربي و الغربي؟ الجواب وارد في قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) ( سورة البقرة ) و قوله تعالى : ( وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) ( سورة البقرة ). . فمن يوجه هذه الحملات المسعورة ضد المسلمين هم الصهاينة والصلبين ،فالتاريخ يعيد نفسه و الأحقاد ضد الاسلام و المسلمين لم تنتهي و الحروب الصليبية و المغولية و حملات التبشير و التنصير التي واكبت محاكم التفتيش و طرد مسلمي الاندلس و الحملات الاستعمارية لازالت ممتدة ... لذلك، فحملات التبشير و رد المسلمين عن دينهم حقيقة لا يرقى لها الشك ، و غالبية المسلمين لا يدركون حقيقة مايحدث ، فمآسي المسلمين في بورما و مالي و سوريا و غيرها هي فرصة لانتعاش حملات التبشير و التنصير تحث غطاء المساعدات الإنسانية، فهؤلاء الطغاة و المستبدين العرب يخدمون أجندة أعداء الاسلام و ييسرون لهم سبل العمل...بينما حكام الغرب يخدمون أجندة دينهم، فحكام إسرائيل يحتكمون إلى توجيهات التوراة و التلمود، و حكام الغرب يحتكمون إلى الإنجيل و العهد القديم والجديد، و يالها من مفارقة فحكام المسلمين لا يتورعون في محاربة دين الإسلام و التنكيل بأهله.. لست من أنصار الإسلام السياسي ، لأني ببساطة مسلم و أدرك أن الاسلام كل لا يتجزأ فهو يغطي السياسة والاقتصاد و العبادات و المعاملات، كما أدرك جيدا أن ثمار الحضارة الغربية لا تحمل في المجموع إلا علقما، وسما في طعم عسل - ذلك بحكم تخصصي في قضايا التنمية-، و أن البديل الحضاري الذي يحمل النجاة للبشرية يكمن في رسالة الإسلام، و اعتقد جازما بان الحق سينتصر على طواغيت الباطل ، وان المستقبل لهذه الأمة التي قال عنها رب العالمين: ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) ( سورة آل عمران ). . فأفضلية هذه الأمة نابعة من إتباعها لرسالة الإسلام، ومن مناهضتها للظلم و الجور بكل أشكاله ، فهذه الأمة في عصورها المختلفة احتضنت كل المضطهدين، و حركة الجيوش لنصرة المستضعفين، والتاريخ لا يمكن مسحه بأباطيل حركات التبشير و الصهيونية المتجبرة ، فاليهود ذاتهم عندما طردتهم أوروبا في العصور الوسطى، فروا إلى مسلمي الأندلس وعندما طرد المسلمين من الأندلس لحق بهم اليهود، فمعظم العواصم العربية لازالت تحتضن أحياءا يهودية بين أسوارها في تعبير حي وملموس على عظمة الإسلام وتسامح أهله .. لذلك، فأمة الإسلام هي الملجأ الذي ستفر إليه البشرية في القادم من العقود، هربا من العبودية الاقتصادية و التفسخ الأخلاقي، لكن قبل ذلك على هذه الأمة أن ترتب بيتها الداخلي، و أن تعيد حساباتها على ضوء كتاب الله وسنة رسوله، فالإسلام هو المنقذ، و بداية التغيير تنطلق من الفهم الصحيح لهذا الدين، و من التحليل العلمي للواقع القائم فالحرب ضد المسلمين في جوهرها و حقيقتها حرب دينية بعناوين مختلفة... فالأمة تنحر من حكامها المستبدين و من أعدائها الخارجيين حتى تتخلى عن رسالتها و عن حلمها الذي يراودها في بناء أمة واحدة يسودها العدل و الأمن والسلام و التعايش ، أمة حدودها العقيدة ودستورها القران وقدوتها محمد عليه السلام، أمة لا تقيدها الحدود الجغرافية و الخرائط الاستعمارية، أمة تختار حكامها بحرية ودون إكراه، أمة تكفل العيش الكريم لكل مواطنيها و لمعارضيها قبل مؤيديها.. فالأمة لازال ضميرها الجمعي يذكر عبارة "وامعتصماه".. فمن هو معتصم هذا العصر الذي سيسمع استغاثة مكلوبي الأمة في أشهرها الحرم ، ودماءهم تنزف و أعراضهم تنتهك و بيوتهم تهدم...؟! ، و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون.. د.طارق ليساوي *إعلامي و أكاديمي مغربي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي