يمنح الدستور الموريتاني رئيس الجمهورية صلاحية الإطاحة بالحكومة ، بغض النظر عن الأسباب . لكن هل تستطيع الحكومة الإطاحة برئيس الجمهورية ؟ وكيف يمكن أن يتم ذلك؟
بداية يجب تحديد المفاهيم ، حيث إننا نقصد ، في الحالة الأولى ، الإطاحة بمفهومها القانوني ، لكننا لا نقصدها ، في الحالة الثانية ، إلا بمفهومها السياسي .
فهل أطاحت الحكومة الحالية برئيس الجمهورية سياسيا ؟
ذلك ما نحاول التصدي للإجابة عليه بمهنية تامة ، وبعقلية كاتب صحفي محصن ضد الأهواء السياسية ، مسترشد بقوله تعالى : { ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تسعوا في الأرض مفسدين} . لكننا ، بالقدر نفسه من الحرص ، سنخوض هذا الغمار، بعد تردد دام عاما كاملا ، محافظة على شعور أناس نحترمهم ، وإن اختلفنا معهم ، سنخوض هذا الغمار بمركب من الموضوعية ، شراعه قول أرسطو عندما خالف بعض الآراء الفلسفية لأستاذه افلاطون : " عزيز عليَّ افلاطون ولكن الحق أعز " . فالرهان الآن قد أصبح على مستقبل موريتانيا ، واستقرارها ، بعد أن بلغ الاحتقان مداه . ولا خير فينا إن لم نصدع بكلمة الحق في هذا الموقف ، وليفعل الله بنا ما يشاء ، كما قال سعد بن أبي وقاص في موقف آخر .
وتقتضي الموضوعية الإشارة إلى أننا لا نتهم الحكومة بسوء النية "مع سبق الإصرار والترصد " أو بدونهما.
لكن ، يحق لنا أن نتساءل :هل أدت السياسات التي اتبعتها هذه الحكومة إلى انهيار شعبية الرئيس محمد بن عبد العزيز ، وتآكل قاعدته الانتخابية ؟
لفت انتباهي منذ فترة قد تزيد على سنتين أو تنقص ، تغير واضح في موازين النقاشات السياسية ، التي تدور بين العامة ، من غير المتسيسين ، داخل المحلات التجارية ووسائل النقل العام ، وأروقة الانتظار أمام مكاتب الإدارة ، وغيرها .
لقد كان النقاش ، قبل هذه الفترة ، قويا بين "منتقدي عزيز وسياساته" والمتحدثين عن "انجازات الرئيس منذ توليه السلطة" . لكن جبهة المتحدثين عن الانجازات أخذت تخبو بعد ذلك حتى لم تعد تسمع إلا منتقدا أو صامتا، غير مكترث .
كما أنه لفت انتباهي أنني كلما تحدثت مع الفاعلين ، في القطاعات الاقتصادية المختلفة ، عن تراجع الإنتاج الزراعي ، والكارثة التي حلت بهذا القطاع ، نتيجة تنكر الحكومة لمسؤولياتها اتجاه المحصول الوطني ، يكون الجواب واحدا : هذه حال قطاعنا ، وجميع القطاعات الاقتصادية .
إن الجميع يرون أن الحكومة ، التي تسير شؤون البلاد ، هي في الحقيقة ، حكومة "الجباية الضريبية" لا حكومة التنمية الاقتصادية .
وفي اجتماع بين رئيس الجمهورية والمزارعين ، عقد في روصو قبل نحو عام ، استرعت انتباهي ظاهرتان جديدتان على هذا النوع من الاجتماعات :
أولاهما : خروج كثير من المزارعين من القاعة ، قبل نهاية الاجتماع ، في تصرف يحمل سوء أدب أشعرني بالخجل . وهو الأول من نوعه منذ وصول الرجل إلى السلطة ، برغم كثرة اجتماعاتنا معه .
ولا أدعي أن خروج هؤلاء احتجاج ، أو مقاطعة مقصودة ، فسوء النية ، في تقديري ، غير موجود . لكن هذا التصرف العفوي يعكس مستوى عاليا من الإحباط ، والاستياء اتجاه السياسات الحكومية ، خاصة أن الرئيس لم يزد في الاجتماع على تأكيد تبنيه لسياسات حكومته الحالية ، التي انقلبت على القطاع الزراعي ، وأن الذين بقوا في الاجتماع ، خرجوا خائبين حيارى ، كأنما على رؤوسهم الطير.
أما الظاهرة الثانية ، فهي التراجع الواضح في سقف التملق لدى كتائب المداحين ، الذين يهيمنون عادة على مثل هذه المناسبات . وكذلك في مستوى موجات التصفيق ، التي أصبحت باهتة ، وأقل عددا .
وتستطيع أجهزة الأمن أن تعود إلى تسجيلات هذا الاجتماع ، والتسجيلات المماثلة ، التي سبقته بثلاث أو أربع سنوات ، وهي بذلك ستحصل على استنتاجات قيمة ، عن مدى التحول الذي طرأ .
كما استرعى انتباهي ، التراجع الحاد في عدد الحاضرين ، خلال لقاءات وزيرة الزراعة بالمزارعين ، في القاعة نفسها ، خلال الحملات الزراعية الثلاث الأخيرة. وكذلك ضمور الخطاب التملقي ، ومحدودية وضعف موجات التصفيق ، حتى عندما يتكرر ذكر اسم الرئيس، الذي كان ذكره يثير عاصفة مدوية من التصفيق . بل إن الأمر وصل في أحد الاجتماعات ، إلى انسحاب بعض المزارعين ، محتجين عند بداية الاجتماع .
ولا علاقة للأمر بموقف من الوزيرة ذاتها ، وإنما بخيبة أمل كبيرة من السياسات الحكومية المتبعة.
وتستطيع أجهزة الأمن أن تقطع شكها باليقين ، إذا عادت إلى تسجيلات هذه الاجتماعات ، وقارنتها بما كان عليه الوضع قبل ثلاث أو أربع سنوات.
فهل كانت أجهزة الأمن تجهل هذا المستوى من التراجع في شعبية الرئيس وحكومته ، نتيجة السياسات الاقتصادية المتبعة ؟ أم أنها كانت تتهيب نقل الحقائق الصادمة إلى الرئيس ؟
الأمر في كلا الحالتين يمثل مصيبة ، عند تقييم أداء هذه الأجهزة .
شخصيا لا أعتقد أن ابن عبد العزيز كان سيخوض معركة التعديلات الدستورية المحرجة ، في هذه الظروف ، لو كان لديه تحذير مسبق عن مدى ما وصل إليه الانهيار في شعبيته ، بسبب السياسات الاقتصادية لحكومته .
وحتى على المستوى السياسي ، فقد ألحقت سياسات الحكومة أذى كبيرا بقاعدة الرئيس ، وبصورته . فقد زادت حدة الاستقطاب داخل الطبقة السياسية . وانقطعت ، أو كادت ، الاتصالات بين الحكومة والمعارضة الفعلية ، وازدهرت حملات شيطنة هذه المعارضة . وهي الحملات التي تطايرت شظاياها إلى أعضاء مجلس الشيوخ ، مما ساهم في انفجار أزمة المجلس ، وخروج بعض شيوخ الأغلبية عن بيت الطاعة الحكومي.
لكن القطرة التي أفاضت الكأس ، وجعلت الإخفاق الحكومي دولة بين الصالونات ، هو حملة الاستفتاء وما تلاها من مشاركة هزيلة ، برغم إلغاء الحكومة كامل ثقلها ، بصورة أعادت الديمقراطية الموريتانية سنوات إلى الوراء .
ونستطيع أن نقول ، بكل أمانة ، إن الخطر الأساسي الذي يواجهه نظام ابن عبد العزيز اليوم ، ليس آتيا من المعارضة الضعيفة والمنقسمة ، وإنما من داخل معسكر النظام ذاته ، أي من سياسات حكومته ، ومواقف الموالين له ، الذين يلقون على وجهه غشاوة من التملق والكذب ، تعميه عن رؤية الحقيقة المرة .
فهل ستتحول هزيمة عزيز ، سياسيا لا قانونيا ، في الاستفتاء الأخير ، إلى كشاف يسمح له برؤية الأخطاء الكارثية لحكومته ، وزعماء موالاته ؟ أم أنه لن "يفهم" رسالة شعبه إلا بعد أن يخرج مقود السيطرة من يده ، ولات حين مناص ؟
إن الرئيس بحاجة إلى أن يؤذن في الناس بالإصلاح ، ليأتوه ركبانا وعلى كل ضامر ، حتى ينقذوا وضع البلاد . وهو على الخصوص ، في أمس الحاجة إلى حكومة تنشط القطاعات الإنتاجية المنهكة ، وبالذات تلك الأكثر ارتباطا بمستوى الفقر في القاعدة الشعبية ، كقطاع الزراعة ، ذلك أن أمن البطون أهم ضمانة لأمن العروش . وهو خاصة بحاجة إلى حكومة توحد الموريتانيين ، وتدرك أن أصحاب الأحزاب المعارضة شركاء في الوطن ، ينبغي التحاور الجدي ، لا الشكلي ، معهم ، لأن المعارضة القوية ضمانة أساسية للديمقراطية ، وحافز لتطوير الأداء الحكومي ، خاصة أن النظام وصل إلى مرحلة من الضعف ، يشكل معها تجاهل المعارضة خطرا جديا عليه .
وإذا ما تم استخلاص الدروس ، بموضوعية ، من النتائج الهزيلة للاستفتاء الأخير ، فإن هذه "النقمة" السياسية ستتحول ، بالنسبة لرئيس الجمهورية ، إلى نعمة ، لأنها ستسمح بتجديد النظام ، وتفعيل آليات التنمية الاقتصادية ، والمشاركة السياسية .
لكن ، هل سيفعلها عزيز ؟ أم أن دولة الفساد العميقة ستنتصر عليه ؟
ذلك ما ستكشفه الأيام ، والأسابيع المقبلة .
وإن غدا لناظره قريب..!