لعل إبطال الإسلام للرهبنة، ومناشدة القرآن للعقل، وحث الإنسان على النظر في الكون، والوقوف على أخبار الأولين، كل ذلك صور مختلفة لدعوة الإنسان للتبصر والتأمل في النفس الإنسانية، التي جعلها القرآن الكريم مصدراً من مصادر المعرفة، وهي نقطة انطلاق الإنسان، وسعيه الموصول نحو التطور.
ومن ثم كانت معجزة الإسلام، الحجة العقلية "القرآن الكريم" وكانت رسالته خاتمة الرسالات السماوية،
وكانت شاملة لمواجهة تحديات هذه المرحلة المتطورة في تاريخ البشر، القائمة على العلم والمعرفة، والسعي نحو التقدم والتطور. فلا نجد في الإسلام خرافات تناقض العقل، كتلك التي أدخلها البشر على دياناتهم السابقة، وكان مصدرها الخيال فقط. ولا نجد معلومات عن الكون تناقض الواقع، لأن الذي أنزل الديانات واحد، وهو الذي خلق الكون، فلا يمكن أن يكون في وجه يخالف الواقع "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير".
لقد جاء الإسلام للناس جميعاً وإلى نهاية الدنيا، وأرسل النبي محمد صلى الله عليه وسلم في وقت بدأ فيه العقل البشري بالتفتح, والحاجات بالكثرة والتعقيد، وبدأ الناس يتصل بعضهم ببعض، فهناك الفلسفة اليونانية، والحضارة الرومانية، والفارسية، وقوافل التجارة التي تصل أطراف العالم ببعضه، في هذا الظرف ظهر الإسلام، فكانت رسالته للناس عامة، ومعالجته للقضايا على جانب من التقدم، لأن مهمته وحدة الإنسانية، ومرحلته ارتقاء القدرة العقلية، والتأسيس للعلم والتحضير للمدنية.
فهذا عمر بن الخطاب يشير في عهده إلى أبي موسى الأشعري، بالتراجع عن الخطأ، إذا لم يصب في اجتهاده، حيث يقول: لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، فراجعت فيه نفسك، وهديت فيه، أن ترجع فيه إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
وهذا الإمام مالك، يرفض أن يفرض كتابه الموطأ على جميع الأمصار، قائلاً للخليفة أبي جعفر المنصور: "لا تفعل يا أمير المؤمنين، فقد سبقت إلى الناس أقاويل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، فدع الناس وما اختار أهل كل بلدة لأنفسهم".
ولعل ما نسمعه من أوصاف ونعوت تدين الإسلام بالرجعية والتخلف والتسلط والإرهاب، سببها غياب الرؤية الفقهية الإسلامية المعاصرة، والحكم على الدين من خلال سلوك الأفراد والمتلقفيين له حكماً حكما يجانبه الصواب، فمنهم الذين يأخذون من الدين بالجانب المظهري، دون الجانب الحقيقي والجوهري، وهو ما أطلق عليه بالرهبنة.
وهذا هو سبب ترك الأمة للفقه الإسلامي، لأنها وجدته بحالته التي أوصلها إليه الفقهاء، غير ملائم لظروف الحياة ومستجدات العصر، ولو أنها وجدت من الفقهاء من جاءت اجتهاداته متوافقة مع أحوال الزمان وتبدل العرض والعادة، وراعت الضرورات والحرج، لما تركته إلى غيره.
إن التقليد الأعمى الذي يطوق المسلم اليوم، يمكن أن يؤدي بالأمة كلها إلى التحجر والانغلاق والرفض الأعمى، والاحتماء بحصون عتيقة عفى عليها الدهر، لأن ذلك أبعد من أن يؤمن لها الحماية، بل من شأنه أن يقصيها عن سيرة الخلق الحضاري الإنساني، ويعتبرها في وضع العاجز القاصر عن العطاء المتواصل.
فالمسلمون اليوم مدعوون أكثر من أي وقت مضى، إلى التأمل في خصوصيات القرآن الكريم، والتراث الثقافي الإسلامي، بعقل ثابت، وضمير مؤمن معاصر، يحول الإيمان الحقيقي، إلى قوة ترنو إلى التجديد، وتتابع تطور الأمم والعلوم، دون مساس بالثوابت العقائدية.
د.يحي عابدين