في السنوات القليلة التي سبقت تأسيس منظمة الاوبك تم العثور على اكتشافات نفطية هائلة في ليبيا . وكانت أول شحنة من النفط الليبي يتم تصديرها من حقل زيلتين في أبريل 1959 .. الإنتاج الليبي من النفط سجل زيادة سريعة لتصبح ليبيا عام 1965 سادس أكبر مصدر للنفط الخام في العالم ، وليتجاوز الإنتاج الليبي بعد ذلك بأربعة أعوام حجم الإنتاج السعودي ، ويصل إلى ثلاثة ملايين برميل يومياً . كما اكتشف الفرنسيون النفط في الغابون ، وبعدها في الجزائر عام 1956 ، حيث وجد النفط الجزائري طريقه للأسواق العالمية عام 1958.
وكانت شركتا شل وبريتش بتروليوم قد عثرتا على النفط في نيجيريا عام 1956 . وفي عام 1959 اكتشفت ايكسون وشل ، حقول الغاز البحرية أمام السواحل الهولندية في غروننغن Groningen. كذلك دلت عمليات الاستكشاف في بحر الشمال بأن امكانية انتاج النفط هناك قد اصبحت واعدة. و في ظل الاكتشافات الهائلة هذه لمكامن النفط ، كان لا بد من أن يشهد العالم تكرار حالة من الإنتاج الفائض التي شهدتها الولايات المتحدة في الثلاثينات ، ولكن على المستوى العالمي هذه المرة ، الأمر الذي برزت معه حاجة ملحة لوجود منظمة تعمل على التنسيق بين الدول المنتجة لتنظيم صناعة النفط .
ومما زاد من خطورة الأمر على شركات النفط الغربية ، الاكتشافات النفطية الهائلة التي طورها السوفيات في منطقة الفولغا – الأورال خلال الفترة من 1955 –1960، وسرعان ما أصبح الاتحاد السوفياتي ثاني أكبر منتج للنفط في العالم . هذا التطور أغضب الأمريكيين لدرجة دفعت بمدير السي. آي. ايه. آلان دالاس Allen Dulles للقول في اجتماع للحكومة عام 1958 ” يواجه العالم الحر وضعاً في غاية الخطورة مع تنامي قدرة السوفيات على قلب الأوضاع في الأسواق المستقرة ” . كانت السي. آي. ايه. لا تريد من أي دولة غربية الاعتماد على إمدادات النفط السوفياتي ، كما كانت تحاول ايطاليا . وقتها كانت شركة ENI المملوكة للدولة المشتري الأكبر للنفط السوفياتي ، وبأسعار تصل إلى نصف سعر نفط الشرق الأوسط الرخيص أصلاً . ويبدو أن رئيس ENI انريكو ماتي Enrico Mattei قرر الاستمرار في اللعبة ، ومع أن أنريكو ماتي كان من أشد المعادين للشيوعية في إيطاليا وعضواً بارزاً في الحزب الديمقراطي المسيحي ، إلاّ انه ذهب إلى موسكو ووقع اتفاقاً مع وزارة التجارة الخارجية السوفياتية لمقايضة شحنات من النفط السوفياتي تصل إلى 2.4 مليون طن سنوياً بشبكة أنابيب ذات قطر واسع ، لبناء خط أنابيب لضخ النفط الروسي لدول أوروبا الشرقية ( بولندا ، هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا ) من حقول الفولغا – الأورال . إلاّ أنه بعد شهر من بدء صناعة الأنابيب المطلوبة في إيطاليا ، تعرضت الطائرة التي كان يستقلها ماتي لحادث غامض أدى إلى سقوطها ومصرعه بتاريخ 27 أكتوبر 1962 ، الأمر الذي أطلق العنان لشائعات تقول بأن السي. آي. ايه. هي التي دبرت الحادث ، خاصة وأن مدير محطة السي. آي. ايه. في روما غادر العاصمة الإيطالية بعد ذلك مباشرة وبصورة مفاجئة.
إن دخول دول منتجة جديدة مثل ليبيا وغيرها من الدول الأفريقية على الخط ، كان من شأنه أن يتسبب في اغراق الأسواق العالمية بالنفط ، أما الحل الآخر المتاح ، فتمثل في محاولة التحكم بالإنتاج ، وبالتالي بالأسعار في المصدر من خلال الدول المنتجة بنفسها، والتي كانت تحت الاحتلال المباشر أو الوصاية المباشرة أو غير المباشرة .
خلال فترة الثلاثينات في القرن العشرين ومع الاستكشافات الكبيرة الجديدة في تكساس وأوكلاهوما ، التي تصادفت مع حدوث الركود العظيم ، بدأت الشكاوى تنهال على مكتب وزير الداخلية هارولد آيكس من تردي الأوضاع في السوق النفطية الأمريكية بالنسبة لشركات النفط . ففي 5 مايو 1933 تلقى الوزير برقية من تكساس تقول بأن أسعار النفط هبطت بصورة حادة في شرق تكساس لتصل من واحد دولار إلى أربع سنتات فقط للبرميل ، وفي اليوم نفسه تلقى وزير الداخلية برقية أخرى من حاكم تكساس كان نصها “الوضع أصبح خارج نطاق السيطرة بالنسبة لسلطات الولاية” . كانت صناعة النفط على وشك الانهيار ، الأمر الذي ينذر بعواقب كارثية . . عندها وقع الرئيس الامريكي بتاريخ 14 يوليو 1933 أمراً تنفيذياً ، يحظر فيه على أي شركة نفطية تجاوز خطوط الولاية المنتجة فيما يتعلق بحصص الإنتاج المخصصة لها والتي حددها القرار . أصبح واضحاً أن النفط سلعة لا يزيد الطلب عليها لو تم تخفيض سعرها ولا يقل لو تم رفعه، فليس هناك حاجة للإنتاج الفائض وتكبد الخسائر التي قد تخرجك من السوق . وهكذا وجد مؤيدو نظرية السوق الحرة أن هناك ضرورة ماسة لتدخل الدولة والولايات المنتجة للنفط لتنظيم عملية الإنتاج ، وبالتالي معالجة مشكلة الأسعار . مثل هذا التدخل هو ما أناطته الأيدي النفطية الخفية إلى منظمة للدول المنتجة للنفط ، ويعمل على غرار ما تم تنظيمه داخل الولايات المتحدة.
مع دخول الخمسينات ، أدت العديد من الأحداث التي عاشها المشهد النفطي الدولي إلى خلق ظروف شبيهة بما حدث في المشهد النفطي الأمريكي، وقادت إلى إيجاد هيئة، للتنسيق بين الولايات المنتجة للنفط وصولاً إلى ضبط الإنتاج والأسعار ، ولتحقيق ذلك كان المطلوب ايجاد “منظمة” خاصة بالدول المصدرة للبترول بهدف القيام بعملية التنسيق من المصدر ، فكان إنشاء “أوبك” في بغداد بتاريخ 14 سبتمبر 1960 . كانت الدول الموقعة على ميثاق المنظمة في البداية هي السعودية، العراق ، الكويت، إيران وفنزويلا ، وتتحكم هذه الدول معاً بـ 90% من حجم سوق صادرات النفط الخام في العالم .
تجدر الإشارة هنا إلى أن إقامة أوبك لم تكن فكرة سيئة بالمعنى التام ، بل إن لها جانبها الجيد ، فهي مؤسسة يمكن ان تكون جيدة أو سيئة طبقاً للطريقة التي يتم استغلالها بها، غير أن ما سبق لا يعني تجاهل حقيقة أن أوبك كانت مطلب الشركات النفطية والدول المستهلكة للنفط في الوقت ذاته .
من المهم هنا أن نتذكر بأن الفنزويلي خوان بابلو بيريز ألفونسو كان – مع الصحفية التشيكية الأصل واندا جابونسكي – اللاعب الرئيسي في الجهود التي قادت إلى ظهور اوبك ، وبأن كلا الشخصين المذكورين على علاقة قوية بالولايات المتحدة والشركات النفطية.
تبوأ بيريز ألفونسو مركزاً رفيعاً في الحكومة عندما عين وزيراً للتنمية . وفي عام 1948 تلقى ألفونسو مكالمة من السفير الأمريكي في كاراكاس يحذره فيها من انقلاب يجري الإعداد له ذلك اليوم عارضاً عليه اللجوء إلى السفارة الأمريكية حيث سيلقى الحماية . إلاّ أن بيريز ألفونسو لم يتمكن من اللجوء للسفارة في الوقت المناسب وتم اعتقاله. وبعد اطلاق سراحه لم يضع ألفونسو وقتاً في الخروج من البلاد إلى واشنطن.
في واشنطن انشغل ألفونسو في مكتبة الكونغرس وهو يدرس الظروف التي أدت وصاحبت أزمة 1933 النفطية . وقد ركز الوزير الفنزويلي السابق اهتمامه على فكرة إنشاء منظمة خاصة بالدول المصدرة للنفط تعمل على ضبط حصص الإنتاج . وجاء انقلاب الرئيس السابق رومولو بيتانكورت عام 1958 ليعود ألفونسو إلى بلاده كوزير للمناجم والبترول هذه المرة . استعان بيريز ألفونسو بمستشار أمريكي ألحقه بوزارته لمساعدته في الاقتداء بتجربة 1933 الامريكية في التعامل مع الأزمات النفطية من خلال إقامة منظمة خاصة بحماية مصالح الشركات النفطية الرئيسية على الساحة الدولية هذه المرة .
في عام 1959 كان ألفونسو أحد المشاركين كمراقب في مؤتمر النفط العربي المنعقد في القاهرة . عشية المؤتمر أقدمت بريتيش بتروليوم على خطوة استفزازية خصوصاً بتوقيتها بتخفيض أسعارها في وقت انعقاد مؤتمر كهذا وكأنه جاء على الأغلب لتحقيق ذريعة لانشاء اوبك . بعد بضعة أشهر من مؤتمر القاهرة اقدم رئيس مجلس إدارة ستاندرد اويل – نيوجيرسي على استفزاز جديد باجراء تخفيض على أسعار النفط بنسبة 7% بدون الرجوع إلى الدول المنتجة ، رد الطريقي وألفونسو على اجراء ستاندرد اويل بالترتيب لعقد اجتماع آخر لممثلي الدول المنتجة . وفي سبتمبر 1960 استضافت بغداد اجتماعاً لممثلين عن السعودية وفنزويلا والعراق وإيران والكويت وتوصلوا إلى اتفاق على تشكيل هيئة جديدة قادرة على مواجهة الشركات النفطية وتسمح لهذه الدول بإدارة الانتاج والأسعار ، وهكذا كانت ولادة اوبك .
واندا جابونسكي كانت حاضرة في مؤتمر النفط العربي في القاهرة. فهذه السيدة كانت تجمع بين الجمال والذكاء بحيث ركزت على عالم النفط لتعرف كل شخصية ذات وزن في هذا القطاع بما في ذلك كبار المسؤولين في صناعة النفط في الشرق الأوسط .
على هامش مؤتمر القاهرة ، عملت جابونسكي على ترتيب لقاء متكتم بين بيريز ألفونسو و وزير النفط السعودي الشيخ عبد الله الطريقي . كان الطريقي من أوائل السعوديين الذين تلقوا تعليمهم في الولايات المتحدة حيث تخرج من جامعة تكساس في مجال الجيولوجيا و عمل بعدها كجيولوجي لدى شركة تكساسو . وفي عام 1955 عين الطريقي على رأس إدارة شؤون النفط والمناجم السعودية المشكلة حديثاً . لم تكن فكرة انشاء منظمة لمصدري النفط فكرة سيئة بل أخذ جانبها الايجابي لو تمّ استعمالها بطريقة صحيحة وهذا مع الاسف لم يحدث حيث كانت كبيرة الدول المنتجة هي حصن طروادة الامريكي داخل المنظمة. وشخصياً عرفت الطريقي لدى إقامتنا في الكويت ، حيث عاش لفترة بعد إزاحته عن منصبه كوزير للنفط بسبب أفكاره وبتحريض من ارامكو و الولايات المتحدة حيث كانت تعتبره شركات النفط الامريكية عدوها الاول لانه كان يطالب بإعادة دراسة امتياز شركة ارامكو لمصلحة السعودية ويطالب بان يكون قرار الانتاج والاسعار سعودياً . عندما قابلته أول مرة بالكويت كان الشموخ والكبرياء والمرارة مرسمون على وجهه . كما عملنا معاً كمستشارين لدى شركة نفط أبو ظبي الوطنية ADNOC خلال سنوات انشاءها في النصف الاول من سبعينات القرن الماضي .
وكانت شركة ارامكو تسميه (الشيخ الاحمر ) كناية عن ما تعتبره من افكاره المتطرفة. صادقت الكويت على اتفاقية اوبك في وقت كانت لا تزال فيه تحت الحكم البريطاني المباشر (تم الإعلان عن استقلال الكويت رسمياً عام 1961) إضافة إلى أن شركة نفط الكويت ، المنتج الوحيد للنفط في البلاد كانت مملوكة لشركة غلف أويل الأمريكية والبريتيش بتروليوم البريطانية . فهل نستطيع أن نستنتج أن القرار الانغلوامريكي كان وراء انشاء اوبك ؟
د. عبد الحي زلوم
مستشار ومؤلف وباحث