تابعنا جميعا مايمكن تسميته تجاوزا "بفوبيا استفتاء إقليم كردستان"، و ماصاحبه من ردود أفعال متباينة من قبل المنتظم الدولي، و دول الجوار و الجامعة العربية وغيرها ، و ما دفعني لكتابة هذا المقال، هو تصاعد وثيرة الخطاب "العنصري" و"العدائي" من طرف بعض قادة و صناع الرأي ب"إقليم كردستان" و ببلدان الجوار العربي و الإسلامي...
مبدئيا، ينبغي تجنب لغة الوعيد و الترهيب و التهديد و التخوين، فهذه قيم تساعد في الهدم لا في البناء، و تساعد على الشقاق بدل الائتلاف، فالمشاكل و الخلافات السياسية ينبغي أن تعالج سياسيا بالحوار و الإنصات للرأي و الرأي الأخر، و بتغليب المصالح المشتركة بدل الانصياع إلى الخطابات ضيقة الأفق، و لما كان المقال حول استفتاء كردستان، فإنه من الأمانة العلمية أن نقر ببعض الحقائق التاريخية، التي لاينبغي إغفالها و التغاضي عنها في ظل موجة التخوين، التي يتعرض لها الشعب الكردي، واتهامه "بإسرائيل" الثانية و تنفيذ أجندة إسرائيل ومشروعها التوسعي...
فالشعب الكردي في غالبيته يدين بالإسلام، و نحن كمسلمين نؤمن جمعيا بأن رابطة الإسلام فوق رابطة القبيلة و فوق لحمة الدم، فرابطة الإسلام هي قبل كل شيء رابطة المبادئ و أخوة الأهداف و الغايات المشتركة...فمن المعيب أن يتهم هذا الشعب الذي أخرج إلى الأمة الإسلامية قادة وجنود ربانيين عظام، كرسوا حياتهم لنصرة الإسلام و حماية المقدسات و الثغور الإسلامية.. فهذا الشعب أخرج الملك العادل "نور الدين زنكي" ( 1118 -1174م) و "أسد الدين شيركوه" القائد العسكري الذي لعب دورا في تأسيس الدولة الأيوبية في مصر، و الملك الناصر "صلاح الدين الأيوبي" (1138-1193م) هذا القائد العسكري الكردي المولد المسلم مؤسس الدولة الأيوبية التي وحدت مصر و الشام و الحجاز وتهامة و اليمن، في ظل الراية العباسية بعد أن قضى على الخلافة الفاطمية التي استمرت 262 سنة..
و بعد أن جمع ووحد الصف المسلم، وجه مجهوده الحربي لمواجهة العدو الأساسيللأمة وهم الفرنجة وغيرهم من الصلبيين، في سبيل استعادة الأراضي المقدسة التي استولى عليها الصليبون في أواخر القرن 11م و تحديدا منذ العام 1099م، و قد تمكن في النهاية من استعادة كل الأراضي الإسلامية في فلسطين و لبنان، بما في ذلك استرجاع مدينة القدس بعد أن هزم الصليبيون في معركة حطين 4 يوليو 1187م، وبفضل هذا القائد عادت القدس لحظيرة الإسلام، بعد احتلال صليبي اقترب من 90 سنة، واستمرت المدينة إسلامية منذ 1187م إلىأن احتلها الانجليز و فيما بعد الصهاينة مع مطلع القرن 20م، ونتمنى أن يكتب الله للأمة فاتحا مسلما من طينة الملك الناصر، لاسيما و أن القدس الأسير ينادي هؤلاء القادة العرب و المسلمين، بان العدو الحقيقي هم الصهاينة وحلفاءهم، و ليس الأكراد أو الأمازيغ أو أهل اليمن أو باقي الشعوب العربية .فهؤلاء جميعا توحدهم راية العقيدة الإسلامية، و لازال يراودهم الحنين لعدل و رحمة الاسلام،قيم افتقدوها في ظل مجتمعات يحكمها الاستبداد و الطغيان..
فالعدو الحقيقي للأمة الإسلامية هو هذه الفرقة و التنازع و التنابز بالألقاب، و الابتعاد عن رابطة العقيدة، واستبدالها بروابط أضعف وأضيق..ومرد ذلك هو الابتعاد عن الفهم الصحيح للإسلام، و لرسالة الفرد و المجتمع المسلم، فلا مفر من الإقرار و الاعتراف بصدق وواقعية مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه " نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله"..
فابتعاد الأمة عن الإسلام و تخليها عن روحه السمحة، وغاياته النبيلة في بناء الفرد و الجماعة ، لن يقود إلا المزيد من الضعف و الوهن و التفكك و الانفصال، فالإسلام عندما شرع لعبادات مخصوصة –الصلاة و الزكاة و الصيام والحج- فهو سعى لتدريب النفس البشرية على تحصيل ما أعد لها بطبيعتها من قوة الإرادة و سبيل الاختيار من جهة، وما كان لها من خاصية الاجتماع و روح المشاركة الجماعية من جهة أخرى، فبهذه العبادات يتم ترويض النفس البشرية، و الحد من اندفاعها في طريق الشهوة والهوى، فتتم حماية النفس من أخطار الاسترسال و التبعية العمياء للشهوة و الهوى، و حمايتها في مواجهة الغير بالاعتراف بوجود الأخر و التآخي معه، بدل معاداته و مصارعته ، على خلاف المبدأ الذي قال به "هوبز" و "روسو" و "جون لوك"" الإنسان ذئب لأخيه الإنسان" وهؤلاء من رواد نظرية العقد الاجتماعي، وهي النظرية التي أسست للحضارة الغربية القائمة على مفهوم الدولة القومية...
فتوجيهات الإسلام جاءت لإيقاظ روح الجماعة بين الأفراد من الناس، و دفعهم إلى الاجتماع و التأسيس للمجتمع الإنساني، وبناء المجتمع هو دليل على رقي الإنسان وتحضره،فغاية ما تسعى إليه البشرية هو إقامة مجتمع، لا يرتكز على القبلية أو الشعبوية، وإنما يقوم على خصائص الإنسانية و حدها، و التي تتمثل في السلم في العلاقات العامة والاطمئنانو عدم الاضطراب في الحياة الخاصة.. لأجل ذلك رسخ الإسلام لمبدأ المساواة بين الناس، فالأفراد سواسية كأسنان المشط ، و لا فرق بين عربي و لا عجمي و لا أبيض و لا أسود إلا بالتقوى، فغاية الإسلام هو التأسيس للمجتمع الإنساني الأمن و نزع شرارة العدوان والاعتداء و الظلم و البغي، لهذا كانت نظرته إنسانية و للناس جميعا قال تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) ( سورة الإخلاص ).
و لمنع النفس البشرية عن التفكير في الاعتداء على الغير أفرادا أو جماعات، أمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى، و نهى عن الفحشاء و المنكر و البغي، و أمر بالعدل بجميع صوره في الشهادة و الحكم و القضاء..لذلك فالمجتمع الإسلامي في جوهره مجتمع سلم و أمن، وعدل و إحسان، مجتمع ينبذ الفحش و الرذيلة، و ينبذ العدوان و الظلم، مجتمع أخلاقي فاضل..
لكنه ليس بالمجتمع المستسلم الخنوع، فهو لايقبل العدوان عليه، مجتمع يدفع عنه العدوان والظلم مصداقا لقوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) ( سورة البقرة ) ، وهو ليس بمجتمع طغيان يغريه الانتصار و نهب خير مجتمع أخر، لقوله تعالى : ( لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) ( سورة الممتحنة )، مجتمع شعاره العدل حتى مع الأعداء لقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)(سورة المائدة ). .
فدعوات الانفصال التي تصاعدت حدتها، ليس فقط في كردستان العراق، بل بباقي أقطار العالم العربي و الإسلامي، مردها إلى غياب هذا التصور في بناء الفرد و المجتمع ، فالعدل و الكرامة و احترام إنسانيةالإنسان مغناطيس جذب، فالمعركة ليست لكسب إقليمأو مساحة ارض، و إنما لكسب القلوب و العقول، وهذا أهم درس ينبغي استخلاصه من استفتاء إقليم كردستان، ولا يمكن بأي حال من الأحوال كسب عقول أفراد الأمة الإسلامية، إلا بالعودة لرسالة و منهج الإسلام ، فرسالة الإسلام إطار للإنسان الحي و للمجتمع القوي ، للإنسان ذو الإرادة و العزم و للمجتمع العطوف المتآخي ، المجتمع الأبي الذي لا يقبل الضيم و الذل و الخنوع .. فالمسلم رسالته هي أن يكون ذا إرادة حرة ، ورسالة المجتمع المسلم أن يحقق العدل و السلم و يدفع الأذى و العدوان، و رسالة المسلم مقدمة لرسالة المجتمع الإسلامي، فلا يتحقق عدل و لا سلام ولا أمن ، و لايتم دفع العدوان والظلم من المجتمع، إلا إذا كان أفراده ذوي إرادة حرة ورؤية ومنهج قويم..
فلا غرابة أن يطالب الشعب الكردي المسلم بالانفصال، مادامت شعوب عربية تسفك دماها و تنتهك أعراضها بأموال و سلاح عربي، بل و بتأييد من علماء دين باعوا أنفسهم لحكم استبدادي دمر البلاد والعباد..نود أن يتم وقف نزيف الدم والتفكك و التشرذم، والطريق إلى ذلك لايمكن أن تتم عبر التصعيد العسكري و الإعلامي، و إنما عبر الاحتكام لمنهج رب العالمين، و تغليب صوت العقل، و تجنب الارتماء في أحضان دعاة الفتنة وسفك الدماء، فالدم و العرض المسلم خط أحمر في جميع الأحوال..."هذا بيان للناس وهدى و موعظة للمتقين" (الآية 138 آل عمران) ..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
د.طارق ليساوي
*إعلامي و أكاديمي مغربي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي