بعد أكثر من عقدين من الضبابية الناجمة عن تشابه الأحزاب السياسية واختلاط الأنساب الايديولوجية بسبب سطوة ما سمي بالفكر الأوحد، أي فكر النيوليبرالية الاقتصادية المنحازة للجشع اللامحدود والمبشرة بالعولمة السعيدة، حدث في أوروبا هذا الأسبوع ما يمكن أن يعدّ بداية عودة للوضوح الايديولوجي الفاتح لباب الاختيار الحقيقي أمام الناخبين. ذلك أن الاشتراكية – التي لم يكن أحد من الساسة الأوروبيين الحاليين ليجرؤ، حتى عهد قريب، على إعلان الإيمان بها – قد عادت الآن خيارا متاحا أمام المجتمع البريطاني بعد أن تفاقمت فيه التناقضات وأظلمت في وجهه الآفاق.
تطور قد يبدو مناقضا للمنطق الأناني لهذا الزمن العولمي، ولكن الاشتراكية عادت بالفعل خيارا متاحا في بريطانيا بعد أن أعلن زعيم المعارضة جريمي كوربين في اختتام المؤتمر السنوي لحزب العمال، الأربعاء، أن حزبه عازم على انتهاج اشتراكية قائمة على الاستفادة من تجارب الديمقراطية الاشتراكية في البلدان الاسكندنافية: «اشتراكية للقرن الحادي والعشرين». وقد يبدو من الطريف، في الظاهر، أن رئيسة الوزراء وزعيمة حزب المحافظين تيريزا ماي لم تنتظر سوى عشر ساعات، أو نحو ذلك، لتردّ على خطاب كوربين بخطاب عنتري انتصرت فيه للرأسمالية باعتبارها «أكبر عامل من عوامل التقدم الجماعي الذي ابتدعه الإنسان منذ بداية التاريخ». إلا أن سرعة الرد تدل، في العمق، على مدى خطورة المعارك القادمة داخل المجتمع البريطاني لا انتخابيا وسياسيا فحسب، بل وايديولوجيا وثقافيا أيضا، مع ما يرتبط بهذه المعارك من انعكاسات على مستقبل العلاقات الخارجية، خصوصا مع الاتحاد الأوروبي في ظل توترات إجراءات طلاق البركسيت، ومع أمريكا في ظل النزعة الحمائية التي تتسم بها مواقف ترامب (رغم كثرة أكاذيبه الرسمية منذ شهور عن استعداد إدارته لعقد اتفاقية تجارية مع بريطانيا).
ولهذا فقد اغتنمت تيريزا ماي مناسبة الذكرى العشرين لحصول بنك انكلترا على الاستقلال عن الحكومة في مجال تقرير السياسات النقدية العامة لتتطرق في خطابها لمسائل ايديولوجية ليس المصرف المركزي هو المقام المناسب لها في العادة. حيث قالت رئيسة الوزراء إن «الاقتصاد الحر، المنظم بقوانين وإجراءات سليمة، هو أبدع محرك للتقدم الجماعي. فقد مثل الاقتصاد الحر في الأصل (أي عند استحداثه قبل حوالي قرنين) صيغة جديدة أخرجت المجتمعات من الركود ومن الظلمات إلى أنوار العصر الحديث». وأضافت أن الاقتصاد الحر هو الوسيلة المثلى، بل الوسيلة الوحيدة القابلة للاستمرار، لتحسين مستوى معيشة أي فرد في أي بلاد.
كما حذرت تيريزا ماي أن أي محاولة للتخلي عن الاقتصاد الحر، باللجوء إلى الدين العام وإلى زيادة الضرائب، ستضر بالوضع الاقتصادي وتؤدي إلى تزايد البطالة. كلام معتاد من الساسة المحافظين والنيوليبراليين. إلا أن ما يجعله نافرا عن السياق هو أنه يأتي في إطار دفاع ايديولوجي عن الرأسمالية. الأمر الذي يعني أن تيريزا ماي تعتبر أن مجرد اللجوء إلى الدين العام وإلى زيادة الضرائب إنما هو خروج على الرأسمالية ومروق من دين الاقتصاد الحر! هذا بينما تؤكد جميع الدراسات بأن سياسة التقشف السائدة منذ حوالي عقد من السنين هي المسؤولة عن ضعف النمو الاقتصادي عالميا، وبينما تثبت التجربة التاريخية أن تدخل الدولة في الاقتصاد، سواء عن طريق انتهاج سياسة صناعية مدروسة أو عن طريق الاستثمار المكثف في البنية التحتية وإبقاء الخدمات الحيوية من ماء وكهرباء ونقل وبريد، الخ. في نطاق القطاع العام، قد كان من أهم العوامل التي ضمنت لكثير من الدول الأوروبية مستوى الازدهار الباهر الذي أحرزته من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى منتصف السبعينيات، في ما يسمى لدى الفرنسيين بـ»الثلاثين المجيدة».
لقد كان كوربين محقّا في الحمل على المحافظين بسبب تمسكهم الوثوقي الدوغمائي بالنموذج الاجتماعي الذي صاغته مارغريت تاتشر والذي يقوم على الخصخصة، وخفض الضرائب على الأثرياء وإضعاف حقوق العمال والموظفين بما يعود بالأرباح الطائلة على الصفوة وبالديون الثقيلة على الأكثرية. والدليل هو أن الاقتصاد النيوليبرالي لم يعد قادرا على ضمان تحسين مستوى معيشة معظم الناس بسبب عجزه عن تأمين الوظائف المستقرة، والرواتب الجيدة والمساكن ذات السعر أو الإيجار المعقول.
مالك التريكي
٭ كاتب تونسي