ما يعيشه الإماراتيون هذه الأيام من أجواء فرح وحبور بذكرى العيد الوطني، مبعثُه تقديرهم لما بُذل من تضحيات جسامٍ منذ إعلان الوحدة وحتى الآن.. وما قرؤوه من صفحات الإنجازات، في ظروف الشدة والرخاء.
عمرُ الدولة لم يتجاوز ستة وأربعين حولاً.. صحيحٌ أن الفترة قصيرةٌ جدا بوحدة قياس أعمار الدول، لكن في هذا الظرف الوجيز استطاع قادة الإمارات بناء دولة حديثة، تبعد سنواتٍ ضوئيةً عن الكثير من دول العالم، حتى تلك التي وقفت على قدميها منذ قرون، ولذلك يتكرر السؤال دائما عن سر هذا النجاح الباهر، لا على صعيد التنمية والعمران، بل على صعيد بناء الإنسان أيضاً.
من الإجابات الجاهزة لديَ، وربما هي مكمن تميز التجربة الإماراتية، أن القائمين على الشأن العام في الدولة يقيسون الإنجاز بالأيام، لا بالسنوات، وهي حقيقة ربما تختصر عليَ طريق محاولة الإجابة، لما لديَ عليها من براهين، بحكم دراستي وإقامتي في الدولة منذ قرابة العشرين عاما.
لقد منّ الله سبحانه وتعالى على دولة الإمارات بأن جعلها دولة نفطية، لكنها ليست الوحيدة في هذه المنة، فدول كثيرة تفوق الإمارات في إنتاجها النفطي، وبعضها يزيد على الإمارات بإنتاج الغاز واليورانيوم والذهب.. لذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون سبب نهضة الإمارات هو كونها دولة نفطية فقط، فنظرة بسيطة لأغلب الدول النفطية تكفي لنسف فرضية وقوف النفط وراء هذه النهضة، فالإمارات تتقدم على جل الدول النفطية في مستويات عدة، اقتصادياً، وعمرانيا، وتكنولوجيا أيضاً.
ليس النفط إذن، ومن الواضح أن مفتاح النجاح، كما يتأكدُ لي ولغيري، يوماً بعد يوم، ليس سوى حكمة وحنكة وبعد نظر الرجل المؤسس.
أورث الشيخ زايد خَلفه، مؤشرَ نمو وتطور يسير بسرعة تصعبُ فرمَلتُها بعده.. فها هي الإماراتُ مركز الاقتصاد والمال والأعمال.. ها هيَ حاضنة الثقافة العربية والعالمية.. قبلة السياحة.. ومنها تسير قوافل الخير إلى المحتاجين في كل أرجاء المعمورة
لقد كان لتولي حكيم العرب الشيخ زايد رحمه الله دفة الحكم في هذه الدولة أكبر دور في تشييدها على أسس صحيحة، حين استثمر في بناء الإنسان، وفي تمكينه، وبذلك وضع الأسس لبناء دولة حديثة، تضع حاجيات مواطنيها في الأولوية، كما أسس لعلاقة خاصة بين الحاكم والمحكوم، جوهرها روابط البنوة والأبوة، الأمر الذي جعل علاقة الشعب بالحكام علاقة روحية، تعجَزُ أعرقُ ديمقراطيات العالم عن توفيرها.. ففي مجالس الحاكم الأب تبسطُ أمور الرعية الأبناء.. ومجالس الحكام مفتوحة أمام الأبناء، كل الأبناء، في أي وقت.
طوع الشيخ زايد رحمه الله هذه الصحراء القاحلة بعزمه وبحنانه وحبه للخير وسعيه فيه.. كتب اسم الدولة في العالم بأحرف قوته الناعمة وأياديه البيضاء، وحرصه على أن يعيش الإنسان كائنا من كان، بصرف النظر عن دينه، ولونه، وعرقه، حياة كريمة، تليق بإنسانيته.
أورث الشيخ زايد خَلفه، مؤشرَ نمو وتطور يسير بسرعة تصعبُ فرمَلتُها بعده.. فها هي الإماراتُ مركز الاقتصاد والمال والأعمال.. ها هيَ حاضنة الثقافة العربية والعالمية.. قبلة السياحة.. ومنها تسير قوافل الخير إلى المحتاجين في كل أرجاء المعمورة.
الإمارات اليوم أيضاً تملك جيشا باسلاً، ومن أفضل جيوش المنطقة، تقف فيه المرأة بجانب الرجل.. الإمارات اليوم تطلقُ إستراتيجية الثورة الصناعية الرابعة وتعمل على مشروع لاكتشاف المريخ.. وفيها أضحى للذكاء الاصطناعي قطاعاً وزارياً يشُد أزره.
كل هذا العمل الجبار ما كان له أن يتحقق لو لم يؤسس له بشكل جيد من رجل حكيم، لديه بعد نظر خارقٍ، سارت الركبانُ بقصصه، وأذكر هنا، على عجل، قصة دالة على أن الشيخ الصحراويَ، كان ثاقب البصيرة؛ حيث روى لي أحد الأصدقاء، أنه في بداية إنتاج النفط في الدولة، كانت مصانع التكرير تطلق كميات كبيرة من الدخان، وقد أزعج ذلك الشيخ زايد رحمه الله؛ حيث رأى أن الأمر لا يمكن أن يستمر على تلك الحال، وستكون له أضرار وخيمة على البيئة، فطلب من رئيس الشركة الأجنبية التي كانت تستخرج النفط اكتشاف طريقة تزيل هذا الدخان، وكان ذلك بداية لاكتشاف استعمال الغاز الذي مكن من إخراج النيران من فوهات المصافي، بدل الدخان الكثيف.
كما كان الشيخ زايد يحرص على وحدة العرب وتضامنهم، ويعتبر ذلك هو سر قوتهم، وأستطرد قصة أخرى سمعتها من أستاذي الصحفي أحمد الشولي رحمه الله؛ حيث كان يترجم في بعض الأحيان للشيخ زايد رحمه الله، قالي لي إن وزير خارجية دولة أجنبية، لا أذكر اسمها بالضبط، قام بزيارة للشيخ زايد، بعد القرار العربي بوقف تصدير النفط ١٩٧٣ وطلب الوزيرُ من الشيخ زايد استثناء بلده من الحظر، فكان جواب الشيخ زايد حاسما: "اذهب إلى مصر وسوريا، إذا اتَفقتا على أن نرفع دولتك من قائمة الحظر سننفذ ذلك فورا، وإلا فلا".
عزمُ زايد، وتشبثُ أبناء وطنه، كباراً وصغاراً، بالدفاع عن ما ورثوه منه، عايشته البارحة في مهرجان الوثبة الثقافي؛ حيث لفت نظري ارتداء أغلب أطفال الأسر الزائرة للبزات العسكرية، في مشهد صارخ بحب الوطن، وتجذر الوطنية في نفوس جميع مواطني هذه الدولة، واستعدادهم للذود عن بلدهم بأرواحهم قبل أي شيء آخر.
لقد قرأنا جميعا من مشهد تخريج الدفعة الثامنة من الرجال، والسادسة من النساء، من منتسبي الخدمة الوطنية درساً بارزاً في الوطنية، وفهمنا من المشهد المهيب رسالة مفادها أن المسيرة التي أسس لها القائد الشيخ زايد رحمه الله، تواصل السير بخطى ثابتة، كما أراد لها وأن الأيادي التي تسلمت الأمانة صدقت ما عاهدت الله والوطن والمواطن عليه.
ما شهدنا إلا بما علمنا، حفظ الله بلاد الإمارات قيادة وشعبا.. حق لكم أن تفخروا، وأن تفرحوا.. فقد بنيتهم وطنا بسواعد رجالكم.. وبرهنتم على أن أبناء زايد لا يعرفون المستحيل.