(لو) لم يكن الرئيس الأمريكي مرتاحا في قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة للصهاينة، لفكر وتريث وأجل كما كان يفعل أسلافه من الرؤساء الأمريكيين. الرئيس الأمريكي لا يشعر أنه سيدخل في نفق من الغضب العربي، أو أنه سيواجه قرارات عربية على قدر الحدث، وتعمل الأنظمة العربية على تنفيذها، وقناعته واضحة بأنه يمكن أن يقدم كل الدعم للكيان الصهيوني في الوقت الذي تستمر فيه علاقاته الطيبة مع أغلب الأنظمة العربية.
اتبعت الولايات المتحدة عبر السنوات ومنذ القرن التاسع عشر سياسات معادية للعرب، وشجعت الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، وبذلت جهدها من أجل تمرير الأراضي الفلسطينية إلى الحركة الصهيونية، وصنعت الأجواء المناسبة للحركة الصهيونية والكيان الصهيوني للعمل داخل الولايات المتحدة كسبا للدعم والتأييد الشعبيين. ومنذ أن أخذت القضية الفلسطينية تتفاعل في أركان الأرض وفي مختلف المحافل الدولية ووسائل الإعلام، وأمريكا تقيم علاقات طيبة مع الصهاينة وتقدم للكيان مختلف أنواع الدعم، وفي نفس الوقت بقيت تقيم علاقات طيبة جدا مع الأنظمة العربية، وبقيت الأراضي العربية مسرحا لقواتها وأجهزتها الأمنية، ومصدرا للنهب والسرقة، وساحة للهيمنة والسيطرة. لم تجد الولايات المتحدة يوما أن سياساتها في دعم الكيان الصهيوني تتناقض مع استغلالها للثروات العربية وهيمنتها على القرار العربي. بقي العرب يخطبون ود أمريكا، ويحجون إليها سعيا لحل مشاكلهم وتثبيتا لأركان حكمهم. فهل سيتناقض قرار ترامب الآن بشأن القدس مع سياسات وتوجهات الأنظمة العربية؟ لا.
ربط العلاقات الجدلية بعضها ببعض يشكل السبيل الأمثل للتوصل إلى الاستنتاجات السليمة، ومن لا يستطيع ربط هذه العلاقات لا يمكنه التوصل إلى الاستنتاجات الصحيحة، وبالتالي يمكن أن يضيع في الأوهام أو الظنون. وهذا صحيح بدرجة مطلقة بالنسبة للموضوع الذي نحن بصدده، وهو اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني.
القدس محتلة من قبل الصهاينة منذ عام 1967، ولم يستفز ذلك الحكام العرب والأنظمة السياسية، فهل ستستفزهم عملية نقل سفارة من مستوطنة صهيونية إلى المدينة المقدسة؟ بالتأكيد ستصدر بيانات الشجب والاستنكار والإدانة والاستهجان من حكومات عربية وأحزاب وتنظيمات وجمعيات ومنتديات، وستصدر تهديدات بحق الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، لكن كل هذا سيكون مجرد ثرثرة كلامية، ولن يتطور إلى مفاعيل عملية في مواجهة الخطرين الأمريكي والصهيوني، ومن الصعب أن تصاب المصالح الأمريكية بأضرار. ربما يتحرك أفراد للأخذ بالثأر أو النيل من المصالح الأمريكية في المنطقة، وربما يقوم بعض المتظاهرين بقذف الحجارة على سفارة أمريكية هنا أو هناك، لكن ذلك لن يرتقي إلى أعمال تغير من معادلة العلاقات العربية مع الأمريكيين.
بالأمس، وكما ذكرت جريدة نيويورك تايمز الأمريكية وبعض وسائل الإعلام الصهيونية، طالبت السعودية محمود عباس بالقبول بقرية أبو ديس عاصمة للدولة الفلسطينية بدل القدس، ولم يصدر رد فعل فلسطيني بهذا الخصوص. حتى أن رئيس السلطة الفلسطينية المنتهية ولايته ذهب إلى السعودية وعاد دون أن يخبر الشعب الفلسطيني لماذا ذهب، وماذا سمع. وكان على الشعب أن يعلم من غير المصادر الفلسطينية. فهذا الذي يستبدل القدس بقرية فلسطينية لا يهمه نقل سفارة، ولا أظن أن الذي لم يقم برد الفعل يكترث كثيرا بالمسألة.
هناك ثلاثة أطراف عربية تعترف بالكيان الصهيوني وهي مصر والأردن والسلطة الفلسطينية. وهي أطراف تنسق أمنيا علنا مع الكيان، وتطبع معه، وتقيم مختلف أنواع العلاقات، فهل ستتجاوز هذه الأطراف ما اعتادت عليه، أم أنها ستبقى متمترسة في مواقعها السياسية. وهناك دول عربية وعلى رأسها دول الخليج لا تشعر بالأمن إلا تحت المظلة الأمنية والعسكرية الأمريكية، وعدد آخر من الأنظمة لا يستطيع أن يستمر في صرف الرواتب آخر الشهر إلا بمساعدات مالية غربية وعلى رأسها الأمريكية، فهل هذه أنظمة ستتمرد على القرار الأمريكي وستتخذ إجراءات جديدة تصيب المصالح الأمريكية؟
على الجانب الفلسطيني، كم من مرة وقفت الولايات المتحدة ضد الشعب الفلسطيني لصالح الكيان الصهيوني بخاصة في الأمم المتحدة؟ أمريكا استعملت حق النقض مرات عديدة ضد مشاريع قرارات أممية تدين الكيان الصهيوني أو تطلب منه التوقف عن القيام ببعض الإجراءات أو تنفيذ بعض السياسات؟ لم تترك أمريكا فرصة لإثبات عدائها للشعب الفلسطيني والأمة العربية إلا انتهزتها، وبالرغم من ذلك، استمرت القيادات الفلسطينية المتعاقبة على التمسك بأمريكا كوسيط يبحث عن حل للقضية الفلسطينية. رأى الجانب الفلسطيني وجرب وخبر التحيز الأمريكي لصالح الكيان، بل خبر مشاركة أمريكا في العدوان على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية الأخرى، لكنه بقي ثابتا عند الاستنجاد بأعدائه. وعلى الرغم من أن أمريكا دعمت الصهاينة في هجومهم على جنوب لبنان عام 1982 واحتلاله من أجل تدمير منظمة التحرير، إلا أنها هي التي رتبت وقف إطلاق النار وخروج مقاتلي منظمة التحرير من لبنان.
على الجانب العربي، مارست أمريكا أعمالا أكثر خطورة وإجراما ضد العرب من مسألة نقل السفارة. عام 1973، زودت أمريكا الكيان الصهيوني بالقنابل الذكية التي كانت في مرحلة الاختبار وذلك لضرب قواعد الصواريخ المضادة للطائرات. وتمكن الجيش الصهيوني حينها من تدمير قواعد صواريخ سام التي كانت متوفرة لدى مصر وسوريا. وبالرغم من أن أمريكا أفسدت على العرب إنجازهم العسكري، ومكنت الصهاينة من التوغل بالمزيد في الأراضي السورية، وإحداث اختراق في صفوف الجيش المصري عند الدفرسوار، إلا ان أمريكا هي التي رعت المسيرة التفاوضية بين مصر والكيان الصهيوني، وهي التي رتبت الاتفاق بين سوريا والكيان بخصوص الجولان. وهذا هو سلوك من يتملكه الضعف ولا يجد مفرا أمامه إلا اللجوء لعدوه.
ملك الأردن، كما ورد في وسائل الإعلام، يريد أن يدعو إلى عقد قمتين عربية وإسلامية للتداول في القرار الأمريكي. ومن تجاربنا مع القمم العربية والإسلامية علينا ألا نتوقع موقفا عمليا في مواجهة التحديات الصهيونية والأمريكية. اجتمع العرب في بيروت عام 2002، وما كان منهم إلا مبادرة عربية استسلامية خائبة رفض الكيان الصهيوني التعامل معها، والسبب أن قوة المبادرة بقوة الذين صاغوها، وإذا كان الذين صاغوها أوهن من الوهن فهل سيكون لمبادرتهم أي ثقل أو اهتمام؟ طبعا لا.
مصالح أغلب القادة العرب والفلسطينيين ارتبطت بالكيان الصهيوني والولايات المتحدة، فهل لدى هؤلاء القادة الاستعداد للتضحية بمصالحهم من أجل صياغة رؤية جديدة تجاه الولايات المتحدة متناسبة مع عدائها للعرب والمسلمين؟ من تجربتنا، لا.
فقط هناك محور المقاومة الذي لا يرتبط بأمريكا والصهاينة، لكن ظروف هذا المحور ليست مواتية بعد للتأثير بالمنطقة العربية الإسلامية بطريقة وطنية ملتزمة وقيادتها وفق استراتيجية أصيلة تحرص على مصالح الأمة. لكن مطلوب من سوريا أن تخرج من المبادرة العربية لعام 2002 لما في ذلك من تأكيد على الموقف العربي الصحيح.
أما على المستوى الفسطيني، المطلوب التخلص من اتفاق أوسلو المشؤوم، والتوقف نهائيا عن التنسيق مع الكيان الصهيوني والتطبيع معه. ومطلوب إعادة صياغة الرؤى الفلسطينية ضمن وحدة وطنية راسخة مبنية على وضوح في المبادئ والقيم والخطط والأهداف والوسائل والأساليب. لا يجوز أن يبقى بعض الفلسطينيين بوابة لقيادات عربية تلهث وراء مصالحها عند أعداء الأمة. ومطلوب أيضا التخلي عن دور الولايات المتحدة في البحث عن حل للقضية الفلسطينية، وأن ترفع السلطة الفلسطينية من سقفها، وتقدم عودة اللاجئين الفلسطينيين على فكرة إقامة الدولة.