لا نُجافي الحقيقة بتاتًا إذا جزمنا بأنّ رئيس وزراء دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، الغارق في قضايا الفساد والرشاوى من أخمص قدميه حتى رأسه، يُعاني من “مُتلازمة إيران”، ويحمل كمًّا هائلاً من الكره والحقد والعنصريّة على هذه الدولة الجمهوريّة الإسلاميّة لأنّها تمكّنت برغم مؤامرات الثالوث غيرُ المُقدّس: الإمبرياليّة، الصهيونيّة والرجعيّة العربيّة، تمكّنت من التحوّل إلى قوّةٍ عظمى مؤثرةٍ وفاعلةٍ في منطقة الشرق الأوسط، ناهيك عن أنّها وصلت تقريبًا إلى السلاح النوويّ، وتُواصل بدون كللٍ أوْ مللٍ، تطوير الصواريخ الباليستيّة وغيرها، من أجل الدفاع عن نفسها، وتقوية ردعها إزّاء التهديدات التي تُطلقها واشنطن وتل أبيب وأيضًا الرياض باستهدافها.
***
بحسب التقدير الإستراتيجيّ لدولة الاحتلال، التي زُرعت على أنقاض الشعب العربيّ الفلسطينيّ في العام 1948، في أحد أكبر الجرائم التي عرفها التاريخ الحديث، فإنّ حزب الله، المُصنّف إسرائيليًا “جريرة لإيران” يتبوّأ المكان الأوّل في أعداء تل أبيب، يليه إيران نفسها، وفي المكان الثالث حركة المقاومة الإسلاميّة (حماس) في فلسطين، ومن هنا فإنّ القضاء على إيران هو أحد الأهداف الإستراتيجيّة لكلٍّ من أمريك وإسرائيل ووكلائهما في المنطقة. المأساة، بالنسبة لأعداء الجمهوريّة الإسلاميّة، أنّ الرياح جرت وتجري بما لا يشتهون، فقد حققت هذه الدولة الانتصارات العسكريّة والسياسيّة في الشرق الأوسط، وتقديم المُساعدة لحليفتها سوريّة، أكبر دليل على ذلك.
***
إذن، فشل رهان تل أبيب على إسقاط الرئيس السوريّ، د. بشّار الأسد، الذي لو حدث لشكّل ضربةً قاصمةً لإيران، عسكريًا، تُواصل إسرائيل التهديد باستهداف إيران، وباتت هذه الدولة المارقة خلافًا للماضي، تتحدّث كثيرًا وتفعل قليلاً. التهديدات بإعادة إيران آلاف السنين إلى الوراء لم تخرج ولن تخرج إلى حيّز التنفيذ، وبالتالي كان طبيعيًا وأكثر أنْ تُعلن إسرائيل عن دعمها الكامل لانتفاضة الشعب الإيرانيّ، الذي يتوق للحريّة من النظام الاستبداديّ في طهران، على حدّ قول نتنياهو، الذي أضاف أنّه بعد إسقاط النظام سيُتحوّل الشعب الإسرائيليّ والإيرانيّ إلى صديقين. ولم يكُن لافتًا أنّ الرئيس الأمريكيّ، دونالد ترامب، أعرب عن تأييده للاحتجاجات في إيران، فيما عوّلت السعوديّة على هذا الحراك للتخلّص من العدّو رقم واحد بالنسبة لها، وليس إسرائيل.
***
هذا الدعم من محور أمريكا-إسرائيل-السعوديّة أكّد المؤكّد: الشعب الإيرانيّ، الذي اتهمه ترامب قبل عدّة أشهر بالإرهاب، لا يُهّم هذه الدول ومؤيّديها، إنمّا التأييد للاحتجاجات كان وما زال نابعًا من تعويل هذه الأنظمة على إسقاط النظام، الذي “تجرّأ” على التغريد خارج سرب الهيمنة والغطرسة الأمريكيتين، وعليه لا بُدّ من تأديبه وإدخاله إلى “بيت الطاعة”، كما كان الحال في زمن نظام الشاه البائد. علاوةً على ذلك، نسي هذا المحور أنّ الحكم في إيران هو ديمقراطيّ والرئيس يُنتخب مباشرةً من الشعب، ولا يُعيّن بأمرٍ ملكيٍّ أو آخر، والمُراقبين الدوليين يشهدون بنزاهة وشفافية الانتخابات في الجمهوريّة الإسلاميّة، ومن هنا فإنّ المحاولات المُتكررة لتأليب الرأي العّام ضدّ النظام الحاكم، كانت بمثابة رصاصة الرحمة على هذه “الانتفاضة”، التي لجأ العديد من أفرداها إلى تحطيم وتدمير الممتلكات العامّة، ليُثبتوا أنّ هدفهم زعزعة النظام، ومحاولة استنساخ النموذج السوريّ في إيران، أيْ الإعلان عن “ثورةٍ سلميّةٍ” في البداية، ومن ثمّ إدخال آلاف وربمّا عشرات آلاف الـ”جهاديين” لتحرير الشعب الإيرانيّ من نظام الاستبداد الذي يحكمه، بهدف إخراج هذه الدولة المركزيّة من محور المُقاومة والمُمانعة، ومن ثمّ الاستفراد بحزب الله للقضاء عليه، ذلك أنّ تل أبيب لا يُمكن على المدى البعيد أنْ تتعايش مع تهديد حزب الله الإستراتيجيّ، وخصوصًا أنّ صواريخ المُقاومة، باعترافٍ إسرائيليٍّ، باتت قادرةً على إصابة أيّ هدفٍ في الدولة العبريّة، بما في ذلك المنشآت العسكريّة والمدنيّة الحساسّة جدًا.
***
وبما أنّ نتنياهو نصّب نفسه مُدافعًا عن حقوق وحريّات الشعوب، يجب التذكير بالمثل العربيّ القائل إنّ مَنْ بيته من زجاج لا يرمي الحجارة على الآخرين، فدولته المارقة، التي لم تُنفّذ حتى اللحظة أكثر من ستين قرارًا صادرًا عن مجلس الأمن الدوليّ والجمعية العامّة، تُسيطر على الشعب العربيّ-الفلسطينيّ منذ حوالي سبعين عامًا، ترتكب الجرائم الوحشيّة على مدار الساعة، وتقمع الشعب، الذي يئّن تحت نير الاحتلال بمنهجيّةٍ، غيرُ آبهةٍ بالمعاهدات والمواثيق الدوليّة، ويكفينا في هذه العُجالة تذكير العرب قبل الغرب، بأنّ قطاع غزّة، المُحاصر من دولة الاحتلال، منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، تحوّل إلى أكبر سجنٍ في التاريخ، والأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة تُنذر بكارثةٍ إنسانيّةٍ، تحدث هذه الأمور في ظلّ صمت عربيٍّ وإسلاميٍّ مُريب، لا بل مُشين، في حين تقو دول القارّة العجوز بمُواصلة النفاق والتدليس، ولا تعمل شيئًا من أجل فكّ أسر أكثر من مليونيي فلسطيني في قطاع غزّة.
***
وفي هذه العُجالة يجب أنْ يعرف العالم أنّ إسرائيل، التي تزعم أنّها “الديمقراطيّة الوحيدة في صحراء الديكتاتوريات العربيّة”، تسير بخطىً حثيثةٍ نحو انتهاج نظام العزل العنصريّ (الأبرتهايد) ضدّ الفلسطينيين من طرفي ما يُطلق عليه الخّط الأخضر، فالبرلمان الصهيونيّ يقوم أسبوعيًا بسنّ القوانين لتضييق الحيّز، الضيّق أصلاً، على الفلسطينيين، أصحاب الأرض الأصليين، الذين ما زالوا متشبثين بأرضهم، ويُشكّلون أكثر من 20 بالمائة من عدد سكان دولة الاحتلال، يعيشون في موطنهم فلسطين، وليس في دولتهم إسرائيل. هذه القوانين العنصريّة، لا بلْ الفاشيّة، هدفها تمرير مخطط الترانسفير البطيء، لأنّ الترحيل والتهجير الجماعيّ كما حدث في النكبة المشؤومة لم يعُد من المُمكن تنفيذه.
***
يتحتّم علينا كأبناء الأمّة العربيّة والشعب الفلسطينيّ تذويت الحقيقة الدامغة بأنّ أمريكا هي رأس الحيّة، كما قال الشهيد د. جورج حبش، حكيم الثورة وضميرها، وبالتالي أين تقف أمريكا وإسرائيل والدول الجريرة لهما، يجب أنْ نقف أوتوماتيكيًا في المُعسكر المُعادي، لأنّ هاتين الدولتين تعملان على استدخال الهزيمة وتكريس فوقيّة الإمبرياليّ والصهيونيّ على العرب، وقتلتا من العرب والمُسلمين مئات ألآلاف. وما يجري في إيران، يُحتّم علينا أنْ نقف إلى جانبها، عملاً بقول القائد، المُعلّم والمُلهم الشهيد جمال عبد الناصر، الذي أرسى مقولته المأثورة: نُعادي مَنْ يُعادينا، ونُصادق من يُصادقنا. أمّا الزعم بأننّا نقف مع حريّات الشعوب، فهو عذرُ أقبح من ذنب، ذلك أنّ أهل مكّة أدرى بشعابها، ولا ننسى أنّ القرار الأوّل للثورة الإسلاميّة في إيران كان تسمية سفارة الكيان الإسرائيليّ بسفارة فلسطين.