قررت السلطات العمومية في نهاية العشرية الاولي من هذا القرن انشاء مركب زراعي-صناعي لإنتاج السكر، وذلك بسبب اكراهات الازمة الغذائية العالمية عام 2007، والتي نجم عنها ارتفاع غير مسبوق في أسعار المنتجات الغذائية، مما دفع بعض دول العالم لحد حظرتصديرسلعها الغذائية.
يُعد اختيار هذا المحصول كسراللروتين المعهود، وإيذانا بالشروع في تشجيع اقامة مشاريع هيكلية رائدة، ستسمح في حال نجاحها بتنمية القطاع وتحويله، إلى قاعدة إنتاج حقيقية، وأساس متين لظهور صناعات تحويلية ضرورية لتمتين قطاع الصناعة في البلد، بحيث يصبح صمام أمان ضد الأزمات الاقتصادية الناتجة عن تقلبات الصناعات الاستخراجية.
يُعتبر هذا المشروع بمثابة استنساخ ناقص لمشروع آخر يقع على الضفة اليسرى للنهر ،و بالرغم من تشابه المركبين بشكل كبير لحد التطابق،لكن هنالك اختلافان جوهريان قد يعنيان الفرق بين النجاح والفشل،فمركب السنغال استثمار خاص قامت به مجموعة Mimran وتستفيد منه السنغال بتوظيف أكثر من 6000 عامل ناهيك عن توفير العملة الصعبة، بينما فشلنا نحن في اقناع المستثمرين بالمشروع وذلك بعد الطرد المهين لشركة كنانة، ذات الخبرة الكبيرة وشبكة العلاقات الواسعة مع المستثمرين العرب ،مما دفعها للجوء للتحكيم الدولي، في حين تم استبدالها بمكتب دراسات سنغالي مغمور AGRI D’OR يسهل توجيهه حسب الطلب.
يصعب فهم دوافع ذلك القرار اللهم ان كان ذلك لأسباب لا تخدم الصالح العام،وبسبب هذا الخطأ الفادح لم تنجح كل المساعي التي بُذلت لأقناع المستثمرين، فيكفي ان نعرف ان مجموعة الراجحي كانت تنوي استثمار مليار دولار في مجال الزراعة، ولم يتحقق ذلك بسبب المشاكل العقارية، فلماذا لم تٌمول هذا المشروع، خصوصا انه يحتاج فقط لثلث ذلك المبلغ، وهنا يتضح ان المشروع طارد للاستثمار.
الفرق الثاني يكمن في ان مركب السنغال يتم ريه من مياه النهر الوفيرة، في حين سيروي مركب لكليته من مياه السد، والتي تتأثر كثيرا بالهطول المطري، وقد حذّرت في مقال سابق من ان مياه بحيرة السد لن تكفي سوي لنصف المساحة المراد زراعتها، وقد اكدت ذلك دراسةكلفت عشرات الملايينأعدها مكتب دراسات أجنبي، الا هنالك من يصر على تعديل تلك الدراسة لتوافق هوي خاصا، وذلك بالتلاعب بنتائجها، خصوصا انها اظهرت عدم امكانية ري جزء كبير من المساحة بالانسياب الحر، مما يعني الزامية اقامة محطة ضخ مما يزيد من تعقيد العملية.
مشروع بدون رؤية
ان من يتابع سير اعمال هذا المشروع لا بد ان يصاب بالدوار، تماما مثل ما اُصيب مخططو هذا المشروع بعمي السكر، فمثلا تم انشاء شركة توظف 160 عاملا بعقود توفير خدمة!، ويديرها طاقم اداري يضم مدير الشركة ومدير المصنع! ، ويتجاوز راتب هذا الاخير مليون اوقية ،في حين ان القصة لا زالت حلما او مشروعا قد لا يري النور اصلا ،فكيف يتم تعيين طاقم متكامل في حين لا توجد ارض مستصلحة ولا مال لبناء المصنع ولا شركاء ولا حتي خطة واضحة لإنجاز المركب، ويكفي للاستدلال علي ذلك بان الانتاج كان من المفترض ان يبدأ 2015 ،ونحن اليوم لا زلنا في احسن الاحوال في نقطة البداية.
من مظاهر التخبط الأخرى اقامة مشتلة لمزرعة لم تستصلح ارضها اصلا، وهو امر شديد الغرابة، ولا يمكن تفسيره، فالأموال تهدر سدي، والتفسير الوحيد الواضح هو ايجاد مسوغ لصرف المال العام، فبدون المشتلة لا يمكن تبرير غير الدراسات.
من غرائب هذا المشروع انجاز الدراسات المكلفة، وعدم الاخذ بنتائجها، بل محاولة تحويرها لتذهب الاموال سدي، فمثلا تم صرف اموال كبيرة على دراسة لإقامة مصنع وضعت في الدرج، بينما تم الضغط على منفذي دراسة اخري لتغير توصياتهم، بعد ان قالوا ان مياه البحيرة لن تكفي لري سوي نصف المساحة تقريبا.
تم التعاقد مع شركة سطام المغربية لاستصلاح 600 هكتار، علما ان المشروع يتطلب استصلاح حوالي 11352 هكتارا، وقد غادرت الشركة دون اكمال الاستصلاح في حين تم اندثار ما انجز.
وقع الشركة اليوم
بعد ست سنوات تم فيها هدر مليارات الأوقيةمن المال العام تحقق ما يلي:
اعتماد تسعة اصناف من القصب، كان يمكن تحقيق ذلك بأقل من خمسة ملايين اوقية؛
استصلاح 600 هكتار ما يعادل5% من المساحة المراد استصلاحها، لكن المصيبة ان بعضها لم يكتمل ـوالبعض الآخر اندثر بسبب زراعتهمن طرف فلاحي المنطقةبالبطاطا الحلوة امبطاس؛
دراسات عديدة محرفة وأحيانا متناقضة تجاوزت تكلفتها 300 مليون اوقية؛
مشتلة شاخت واحترق جزء منها؛
مخبرين أحدهما مجهز بأحدث التجهيزات غير مستغل للأسف، والآخر لم يتم تسلمه اصلا؛
مسودة لقرض صيني لإقامة مركب لإنتاج السكرعلى مساحة 8000 هكتار دون المشتقات بكلفة تتجاوز 300 مليون دولار لم يوقع لحد الساعة.
نصائح لتدارك الاخطاء وتصحيح الاعتلالات
نقل المشروع لمنطقة الضفة لحل اشكالية الماء وتقليل نفقات النقل وزيادة جاذبية المشروع؛
تثمين سد فم لكليته عن طريق اقامة مزارع للزراعات الغذائية؛
تصفية شركة سكر موريتانيا والاكتفاء بخلية فنية للبحث عن الشركاء واعطائهم الحوافز والضمانات الضرورية، فيكفي مليارات الاوقية التي تم هدرها لحد الساعة دون فائدة تذكر؛
عدم الاقدام على الاقتراض لإقامة المشروع نظرا لنسبة المخاطرة الهائلة، وضعف قدرة القطاع العام على تسيير المشاريع الهيكلية، خصوصا في ظل شبح ارتفاع المديونية.
احسست أمس بالمرارة والحسرة وانا اشاهد ابخرة مصنع القصب في السنغال تتصاعد عاليا، في حين تبخرت مليارات الاوقية بسبب سوء التسيير، لكن أملى كبير في ان يتوقف ذلك النزيف، وان لا يوقع قرض اقامة المشروع، وان يتوجه صناع القرار بدل ذلك للبحث عن مستثمر لإقامة المشروع، لكن يبدو ان النصائح تَرتدٌ سلبا على مقدميها، بدل الاستفادة منها لتصحيح الاختلالات.
.