عندما أشعل الشّاب التّونسي محمد البوعزيزي النّار في نفسه احتجاجاً علي مصادرة عربة الخضروات مصدر رزقه الوحيد من قبل الشّرطة التونسية. مشعلاً معها ما سمّي فيما بعد بأدبيّات السّياسة بثورات الرّبيع العربي، الّذي تحوّل إلى خريف قاتم في أغلب البلدان: ليبيا واليمن وسوريا والتي أصبحت أطلال دول بالإضافة إلى مصر التي ما زالت تتحسّس خطواتها لإيجاد طريق ما !
وحدها تونس نجت من هذا الإعصار الخريفيّ المدمّر. فلماذا تونس؟! لعل الإجابة الواضحة تكمن في مقولة: "ابحث عن المرأة" "وابحث عن التعليم". أو باختصار ابحث عن الحبيب بورقيبة..
حصلت المرأة في تونس مؤخّراً على حقوق لم تحظَ بها مثيلاتها في الدّول العربيّة ، من مساواة في الميراث ووضع قانونيّ لا مثيل له عربيّاً. ولعلّ هذا الإنجاز لم يكن مفاجئاً ولا يحسب فقط للرّئيس الحالي السّبسي بل إنّ هذا تطوّر طبيعيّ في بلد عرف بأسبقيّته عربياً في مجال حقوق المرأة، منذ عهد الرّئيس بورقيبة مرورا ببن علي ومنصف المرزوقي.
التّعليم والتشريع الذي ما برح في صالح حقوق المرأة، الضّلع الأساسيّ للمشروع الإصلاحيّ الّذي تبنّته تونس والرئيس الأسبق بورقيبة منذ استقلالها. حيث تحتلّ تونس التّرتيب الأوّل من حيث جودة التّعليم في منطقة شمال أفريقيا والمغرب العربي.
منذ استقلال تونس من الاستعمار الفرنسيّ في 20 مارس 1956 بعد كفاح شعب تونس وتاريخ نضاليّ طويل للرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة وسنوات سجن ونفي. لم يكن نصيب تونس أفضل من مثيلاتها في الدّول العربيّة والأفريقية.
فقد تسلّمتها ديكتاتوريات لطالما ناضلت ضدّ الاستعمار الفرنسي. حيث تمّ إلغاء الملكيّة عام 1957، وفي نفس العام اختير الحبيب بورقيبة رئيساً باكتساح. وتوالى اختياره لدورات متتالية إلى أن عدّل الدّستور عام 1974 لينتخب رئيساً مدى الحياة! ويظلّ في الحكم حتى عام 1987 إلى أن أطاح به الرّئيس الأسبق زين العابدين بن علي بانقلاب عسكريّ وخلعه من الحكم وحدّد إقامته الجبريّة وأخفى أخباره عن الإعلام إلى أن توفاه الله عام 2000.
لكن من ناحية أخرى كان هناك جانب مشرق لهذا الرّجل "الحبيب بورقيبة" الّذي يشبّهه البعض بكمال أتاتورك . ففي الوقت الّذي انشغل فيه الرّؤوساء العرب بالحروب والزّعامات الوهميّة وما أسموه بالقوميّة العربية، كان الحبيب بورقيبة مشغولاً بصناعة مجد تونس. فاهتمّ بالتّعليم وشرّع قوانين تنصف المرأة، وقدّم فهماً مستنيراً للدين وأبعده عن السّياسة. ولعلّ فترة الرّئيس بورقيبة هي فترة شديدة الشّبه بالفترة الّتي تشهدها مصر حاليّاً مع الرّئيس السّيسي. ديمقراطية وحرية سياسية أقل مع اهتمام واضح بالمرأة والأقليات الدّينية واتجاه لتطوير التعليم.
سياسياً سبق الرّئيس بورقيبة عصره بكثير. فهو أوّل من عارض مبدأ الفلسطينيين "الكل أول لا شئ". ودعا الفلسطينين إلى الاعتراف بقرار التقسيم مع اسرائيل لسنة 1947 وذلك في خطاب شهير له عام 1965. وهو ما طالب به فيما بعد الرّئيس المصري الأسبق السّادات وهو أقصى طموحات العرب الآن بعد أكثر من خمسين عاماَ!
في لقاء للحبيب بورقيبة مع الزّعيم اللّيبي العقيد معمّر القذّافي طالبه فيه بالاهتمام بالتّعليم والقضاء على الأميّة في ليبيا. أخبره العقيد أنّه يخاف أن يثور عليه الشّعب. فأجابه بورقيبة: "أن يثور عليك شعب متعلّم خير من أن يثور عليك شعب جاهل." وتمرّ السّنوات ويثور الشّعب الجاهل على القذافي ويقتله بطريقة بربريّة همجيّة. وأيضاً يثور الشّعب التّونسي المتعلّم المثقف العارف بحقوقه على خليفة بورقيبة الذي أنقلب عليه وأطاح به "زين العابدين بن علي" لينتقم منه وهو في قبره بسلاح التّعليم الّذي أعطاه لشعبه!
فقد كان مشهد شباب وشابات تونس خرافياً في الثورة الّتي اندلعت. والعقد الأول من الألفيّة الثّالثة يلفظ أيامه الأخيرة وجميعهم على قول واحد "بن علي بره بره""