لا يتمارى اثنان في هذه الربوع من قراء التاريخ على أن كل الأنظمة المتعاقبة على الحكم هنا، ظلت في مأمن من خصومها المعلنين، ومعارضيها السياسيين، وأن رصاصة النهاية تأتي دائما من صناع الأزمات ومختلقي التوتر داخل النظام، وما تجربة نظامي ولد الطايع وولد الشيخ عبد الله منا ببعيد.
فقد كانت نهاية نظام ولد الطايع، على وقع أزمة افتعلها أركان نظامه للتخلص منه، ظاهرها صدام بين النظام ومعارضين إسلاميين، وباطنها تأجيج الوضع السياسي ورفع وتيرة حالة الاحتقان تمهيدا للإجهاز على رأس النظام، أما سيدي ولد الشيخ عبد الله فكانت أزمة نظامه داخلية بامتياز، ظاهرها أزمة مع أغلبيته البرلمانية، وحقيقتها خلاف مع الضباط الذي أتوا به للحكم، فكانت نهايته من الداخل.
واليوم يواجه النظام الحالي حالة تأزيم غير مسبوقة في تاريخه، تقودها حكومة توشك أن تكمل حولها الخامس وقد استفرغت أسباب التوتر من أطرافه، وأوقدت نار الفتنة تحت صفيح ساخن، وكأنما تحضر لما حضر له من قبل صناع الأزمات أيام التخلص من ولد الطايع وولد الشيخ عبد الله، في وقت يقف فيه النظام على بعد أشهر معلومات من نهاية مأموريته الثانية، ويحتاج البلد ـ كما النظام ـ لحالة هدوء واسترخاء تضمن عبور منعرج انتخابات 2019 بسلام وهدوء وأمان.
وحتى لا يكون هذا الحديث مجرد اتهام فارغ وإلقاء للكلم على عواهنه، لا ضير لو تذكرنا جانبا يسيرا من تاريخ التصعيد والتوتير لهذه الحكومة، فحين أنهى الرئيس محمد ولد عبد العزيز مأموريته الثانية سنة 2014 كانت علاقته بمعظم الطيف الإسلامي (السياسي والتقليدي والصوفي) تتراوح بين الممتاز والمقبول ودون ذلك، ومع بداية المأمورية الثانية استلمت الحكومة الحالية مقاليد الأمور، فأجهزت على ذلك، وسلكت بالأوضاع مسارا آخر أسس على مرتكزين اثنين: هما التأزيم والتعطيل.
فسارعت منذ الوهلة الأولى إلى تخريب علاقة النظام بالطيف الإسلامي أيا كان مشربه أو منبعه، إذ من المعلوم أنه عشية وصول الحكومة الحالية إلى سدة الحكم كان رئيس الجمهورية يستقبل في مكتبه الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ محمد الحسن ولد الددو كاثنين من أبرز رموز علماء التيار الإسلامي في العالم، ويستقبل بنفس الحفاوة الشيخ عبد الله بن بيه، رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة ، كما يستقبل رابطة العلماء والأئمة الموريتانيين، فضلا عن علاقة ممتازة مع شيوخ الصوفية مثل الشيخ محمدو ولد الشيخ حماه الله وغيره، وكانت مشاريعه الإسلامية من قبيل إذاعة القرآن وقناة المحظرة وطباعة مصحف شنقيط، فضلا عن قطعه العلاقة مع إسرائيل دافعا وحافزا لتعزيز تلك الحالة، لكن أول مهام الحكومة الحالية كانت تخريب تلك العلاقات ونسفها من أساسها، وحشر النظام في خندق خط المواجهة مع هؤلاء جميعا على اختلافهم وتباين وجهات نظرهم، فها هو الشيخ محمد الحسن ولد الدد يضايق وتغلق جمعية المستقبل التي أسسها، ثم يشفع ذلك بإغلاق مركز تكوين العلماء وجامعة عبد الله بن ياسين، وها هي العلاقة مع الشيخ عبد الله بن بية تمر بأسوأ مراحلها، والوظائف القليلة التي قيل إن أصحابها ارتقوها تلبية لرغبة الشيخ أو مجاملة له، قد أخليت منهم، بما في ذلك نجله الدكتور السعد بن بية، وساءت العلاقة أكثر بالشيخ محمدو ولد الشيخ حماه الله رغم محاولات رأب الصدع الكثيرة التي قيم بها..
ولم تكتف الحكومة بتخريب علاقات النظام "الدينية"، بل سعت إلى تعطيل مشاريعه في نفس المجال، بإفراغ القائم منها من محتواه، كإذاعة القرآن الكريم وقناة المحظرة اللتين انطلقتا قبل وصول هذه الحكومة إلى السلطة، إلا أن العرقلة والتعطيل ظلتا ميزة لعلاقة الحكومة بهما، حيث حرمت قناة المحظرة من ميزانية إنتاج أو تسيير، وتركتها تراوح مكانها، عاجزة عن التقدم خطوة إلى الأمام بسبب غياب الوسائل وإعراض الحكومة عنها، ومنعتها من استضافة أو بث دروس للكثير من علماء البلد في مقدمتهم رئيس رابطة علماء موريتانيا الشيخ حمدا ولد التاه، إلا في حالات قليلة دفع المسؤولون عنها ثمن جراءتهم على تجاوز توجيهات الحكومة، وحرم علماء آخرون منها لأنهم مصنفون سياسيا أو لأن الحكومة لا ترضى عنهم.
أما الجامع الكبير الذي وعد به رئيس الجمهورية وتأجل تشييده لفترة الحكومة الحالية، فما زال رسما على ورق التصميم، كما هو حال مشاريع أخرى كان حظها أن الحكومة الحالية أجهزت عليها قبل تنفيذها.
وفي مجال الحريات الإعلامية استلمت الحكومة الحالية مهامها وقد انطلقت القنوات الإذاعية والتلفزيونية المستقلة بباكورة برامج متنوعة، وأحلام وطموحات ذات سقف مرتفع، وسنت الدولة قانونا يلغي العقوبة في جرائم النشر، وأسست صندوقا لدعم الصحافة المستقلة، لكن هذه الحكومة ركزت جهودها على إفراغ كل هذه الخطوات من مضامينها، فحاصرت القنوات الإذاعية والتلفزيونية ووأدت تجربة تحرير الفضاء السمعي البصري، وتعاطت بأريحية مريبة مع فترة انقطاع بث كل القنوات التلفزيونية، وكأن تأزيم المشهد الإعلامي غاية تسعى إليها، بل عمدت إلى إغلاق كل منفذ يمكن أن يصل منه دعم للصحافة المستقلة سواء المرئية والمسموعة، أو الورقية أو الالكترونية، فاختفت الصحف الورقية تقريبا في عهدها، وأغرقت المواقع الالكترونية بحفنة من المتسولين وأتباعهم.
هذا فضلا عن صناعة أزمات أخرى على صعد شتى، وافتعال صراعات مع أركان النظام وأطرافه، وبعض الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين والسياسيين.
لذلك لا مناص أمام النظام من لفظ صناع التأزيم والتخلص من دعاته، أولئك الذين لن يغنوا عنه من الأمر شيئا إذا بلغت تداعيات الأزمة الحلقوم وهم حينئذ ينظرون، ولربما يودون انتهاءه ويستبشرون بانهياره، بل الحل الحق، والحق أحق أن يتبع، هو تفكيك الأزمة، وإنهاء حالة الاحتقان بتقليم أظافر الخادشين جسد الوطن بالتآمر والتصارع، وتهدئة الأوضاع، والعبور بالبلد إلى بر الأمان في هدوء ووقار، فالزوابع المفتعلة هنا وهناك، قد تتحول إذا تجمعت إلى عواصف أزمة هوجاء تقتلع الجميع كأنهم أعجاز نخل منقعر.