​رئاسيات 2019: تغيير من أجل أن لا يكون هناك تغيير | صحيفة السفير

​رئاسيات 2019: تغيير من أجل أن لا يكون هناك تغيير

اثنين, 03/12/2018 - 13:02
محمد المختار ولد محمد فال

"إن أفضل قلعة للحاكم، هي حضن قلوب شعبه" (ميكيافيلي)

***

يعج المشهد السياسي الموريتاني هذه الأيام بحالة ترقب وسيل من التساؤلات، تتمحور في المجمل حول: من سيكون الرئيس الموريتاني المقبل، بعد أن خفت صوت المأمورية الثالثة؟.. واقع يعكس هامشية الخيار الشعبي في العملية، وغياب أي معيار، يختار على أساسه رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية المقبل.. فالعيون اليوم متجهة نحو القصر الرئاسي، منتظرة معرفة من سيقع عليه اختيار الرئيس المنتهية ولايته، خليفة له في المنصب، لقناعة راسخة لدى كثيرين بأن"دعم رأس السلطة، سيشكل أفضل ضمانة للفوز بالمقعد.. وهو مؤشر على حجم الخور السياسي الذي يعيشه بلدنا- رغم كون ثلاثة أربع مواطنيه، هم تحت الثلاثين- وتكريس جزئي كذلك لنماذج رسخت هيمنة ديكتاتوريين، لا زالوا من القبر يحكمون شعوبهم.

 أشهر قليلة، بل أسابيع، هما ما تبقى لنا لنعرف من سيكون الرئيس المقبل؟ ورغم ذلك لا زالت نخبة البلاد مغيبة عن اختيار من يقود سفينة بلدها ومبعدة عن "تدبير" ثروات وطنها المعدنية والطاقوية.. وهما عاملان أساسيان في تحديد الوجهة ومسار التنمية بالبلد، ورغم ذلك فالكل يبدو وكأنه "غير معني" بما يجري أو في حالة انتظار لما سيقرر نيابة عنه.

ولعل الرجوع إلى لحظة توقيع شهادة ميلاد الدولة الموريتانية، هو ما قد يفسر لنا جزءا من المشهد الحالي، ذلك أنه قرار قد تم من جانب واحد، كان من بين أهدافه الأساسية وجود طرف يوقع على نهب الدوائر الاستعمارية لخامات حديدنا عالية الجودة، ذات الكمية المعتبرة.. فكان ميلاد الدولة الموريتانية، مصحوبا باتفاقيات مكبلة، وبحصة لا تتجاوز5% من خامات حديدنا في الشمال، الشيء الذي فجر لاحقا غليانا شبابيا، انتهى بتصحيح الخلل 1974.

 واليوم نلاحظ "إبرام" اتفاقيات استخراجية، تسير على نفس المنوال، وقد تكون بواطنها أفدح، لكنه- رغم كم وتنوع الثروة المنهوبة - لا تبدو في الأفق مؤشرات وعي شعبي- كسابقه - معززا بموقف وطني فاعل، وهو ما شجع الأنظمة المستبدة على الإقدام على ممارسات حرمت  شعبنا من تجاوز محنة فقره المدقع، وتذوق النزر القليل من ثروات بلده الوفيرة والمتنوعة.. واقع يلغي دور الشعب ويؤدي إلى تكريس التحكم المستمر للدوائر الغربية في أنظمة تنقصها الشرعية والمشروعية، وتحرمها الزبونية من الاستفادة من الكفاءات الوطنية المهمشة، ترى في رضا تلك الدوائر الاستعمارية أولوية على حساب تلبية مطالب وحقوق مواطني بلدها.

 معادلة تفرض على الموريتانيين وقفة مع الذات، بغية تحديد السبل الكفيلة بتغيير واقع ضاغط، يسعى سدنته بجد من أجل أن يصبح هو النموذج الأوحد والنهج الذي لا فكاك منه، ضمن جدلية تستلهم روح ومضمون هزلية البيضة أو الدجاجة.

هل يمكن أن نغير قبل أن نتغير؟

لا أريد أن أتحامل وأكرر مع المفكر السعودي عبد الله القصيمي مقولته: "لو أن العرب يملكون موهبة، لصنع طغاتهم من موهبتهم قوة وانتصارات وإبداعا، كما صنع آخرون من مواهب شعوبهم"، ولكنني أعكس المقولة لتصبح: "لو أن الطغاة العرب كانوا يملكون موهبة، لصنعوا بفضلها قوة وانتصارات وإبداعا، كما صنع آخرون لصالح شعوبهم".

معادلة معقدة، يسهل الخروج منها نظريا ويصعب الانفكاك منها عمليا، دون دفع الثمن المطلوب والأخذ بعوامل النهوض.. فالأنظمة العربية تسعى إلى تكبيل شعوبها وإشغالها بتفاهات، تسهل انقيادها وتبعدها عن الفعل والتأثير.. أما الشعوب فهي ولا شك راغبة في الخروج من عبودية، سلبتها كل شيء- بما في ذلك إنسانيتها- دون أن تكون جاهزة بنفس الدرجة لدفع الثمن المطلوب، كما أنها في نفس الوقت مكبلة بتاريخ طويل من الإلغاء وتحكم جبابرة، نسبوا لأنفسهم الكمال وأحيانا العصمة، ولغيرهم الهوان والتبعية والدونية، فصار أقصى حلم نمني به النفس كعرب، هو ظهور المهدي المنتظر، أو صعود "المستبد العادل".

ورغم طول الفترة الزمنية لهذا القهر، فلا بوادر توحي بأن العبودية الجماعية المسلطة ضد الشعوب قد تراجعت ولا شيء يشي بأن"ضمير" المستبدين قابل لأن يتحرك فجأة، لتلافي الانهيار، الذي سيكونون قطعا ضمن ضحاياه.. فرضي- للأسف- أولئك "السادة" بالعبودية للآخر، المعادي لنا مصلحيا وحضاريا، وبقيت الشعوب مستكينة وخانعة لمن يسومها الهوان ويلغي وجودها المعنوي وأحيانا المادي.. تكرارا لحالنا عند ما اشتاح "هولاكو" بغداد،  وانصاع الناس لأوامر الجندي المغولي- عندما يكل سيفه عن قطع رؤوسهم من فوق أجسادهم- بضرورة الانتظار واقفين صفا واحدا في الشارع، إلى أن يأتي بسيف آخر قادر على قطع رؤوسهم بشكل فعال وسريع.

إن الضوء الذي ظهر في نهاية النفق بعد الانفجار الفجائي لما سمي ب"الربيع العربي"، سرعا نما انقضت عليه الثورة المضادة- وهو حينها لا زال جنينا- وسعت بكل الوسائل  إلى وأده في المهد، الشيء الذي ولد صراعا لا زالت فصوله تتالى..   ورغم ذلك فقد نجح هذا "الربيع" في تحريك المياه الراكدة-الآسنة، وقد يتحول لاحقا إلى سيل جارف.

 صراع انخرطت موريتانيا فيه بقوة- لكن على طريقتها الخاصة، تكريسا لوجهة بدأت منذ السادس من أغسطس 2008، عند ما انقضت مجموعة من العسكريين على أول تجربة ديمقراطية، توجت بحفل تسليم رئيس منصرف للسلطة إلى رئيس منتخب ديمقراطيا، شكلت وقتها النموذج الموريتاني المتفرد.

 ردة اعتقد البعض أن رئاسيا 2019، ستشكل طلاقا بائنا معها، ل"يفاجأ" هذا البعض بالإعلان رسميا عن كونها ليست سوى محطة، قد يغيب فيها رأس النظام اضطرارا بجسمه، لكنه ما فتئ يؤكد شخصيا أنه سيبقى ممسكا وحاضرا ومؤثرا في كل جوانب الصورة بالبلد .. تكريسا للإلغاء  وتنكرا مرة أخرى لمرجعية الشعب، وهو ما قد يشكل صراعا بين وجهتين ومشروعين، أحدهما  يسعى إلى أن تكون الانتخابات الرئاسية المقبلة فرصة للتغيير، وآخر مسيطر، جعل منها معركة حياة أو موت، يخلط ليله بنهاره من أجل تكريس ما هو حاصل، والوقوف بحزم أمام أي تغيير، حتى ولو كان شكليا.

 توجهين يمتلك كل منهما عناصر قوة ويواجه معوقات جدية، قد تكون قدرة الطرف المعارض على تخطيها محدودة.

أيهما سينتصر؟

في 19 إبريل 2007 وصل مشروع التحول الديمقراطي في موريتانيا إلى  ذروته، عند ما تسلم الرئيس الموريتاني المنتخب ديمقراطيا السلطة من سلفه- لأول مرة في تاريخ موريتانيا-وسط العناق والتصفيق الحارين في حفل بهر العالم، وشكل قطيعة مع ما كان سائدا من تغييرات في قمة هرم السلطة بواسطة البيان رقم1، الذي سرعانما أجهز سدنته من جديد على هذه التجربة الوليدة بعد خمسة عشر شهرا فقط، فدخلت البلاد بعدها في سرداب،  انتزعت فيه من يد البرلمان صلاحيات التصديق على اتفاقيات تقاسم الإنتاج مع الشريك الأجنبي، وتدنى خلاله ترتيب موريتانيا في تصنيف الشفافية الدولية وغاب الاستثمار الأجنبي وهرب رأس المال الخصوصي الوطني إلى الخارج، وتم شفط  مداخيل البلد ووضعها في ثقب أسود، وغاب التخطيط وسادت الارتجالية، وأصبحت إرادة الحاكم  بديلا عن الدستور والقوانين وتم انتقاء المشاريع وفقا لآلية واحدة معروفة، ولاحقا "تنجز" تلك المشاريع خلال فترة زمنية تتفوق عليها السلحفاة في السرعة.

التعليم والصحة والأمن وغياب العدالة في مسابقات الاكتتاب والتعيين، كلها متروك تقييمها للمكتوين بنارها.

 الانتخابات تحولت إلى مهزلة وأداة لتصفية الحسابات، كما انهار كذلك دخل العائلات وضمرت الأسواق وساد الكساد، وذبل النشاط الثقافي وغاب الابتكار، واستهزئ علنا بإبداعات الشعراء، وتخلخلت اللحمة الوطنية واختلت المعايير.. إلخ، فتداخلت عناصر الصورة وأصبح كل شيء ضاغطا، يتفاعل فيه الشعور بالدونية والتهميش مع غياب الفرص وانسداد الأفق والتنكر المطلق للحاجات الضرورية للبشر والتي بدونها لا تتحقق إنسانية الإنسان، الشيء الذي وضع البلاد ضمن مسار، سيفضي إلى واقعين أحلاهما مر.. فإما الانفجار المفاجئ، الذي سيكون الفريق الحاكم أول ضحاياه، وإما التحلل المؤدي إلى الذوبان والانهيار- لا قدر الله.

فنحن إذن أمام خيار ، تجرع الموريتانيون في الريف والحضر مراراته، وعرفوا كنهه جيدا، جعلهم في حالة تيه، وتمزق وجداني، بفعل الخطاب "الثوري" والممارسات "الرجعية".. تجربة تسعى هذه الأيام إلى التأبيد واحتلال الصدارة، بوصفها القدر المحتوم للبلد والخيار الذي لا يمكن الاستنجاد بنقيضه.

جبرية، تسعى إلى تحجيم أي فرصة للتغيير، وتيئيس الطرف المعارض، ليرفع الراية البيضاء، وينخرط  صاغرا في"محاربة الفساد" وخيار "الانحياز إلى رئيس الفقراء" وقطار "الإنجازات الجبارة"، التي بفضلها تجاوزت الطرق كل ما أنجز طيلة فترة الاستقلال- رغم الواقع المزري لأهم الطرق التي تربط البلاد بجميع دول الجوار، كما تهالكت كذلك تلك المنجزة في ظل هذا العهد "المتفرد" والذي يفاخر بأنه استطاع أن ينجز ما لم يستطعه الأوائل.

واقع يعريه الموقف الشعبي من استفتاء تعديل الدستور السنة الماضية، وتصويت منتسبي حزب "الإتحاد من أجل الجمهورية"، الذين فاقوا المليون منتسب، لكن لم  يصوت منهم لصالحه مؤخرا، سوى الثمن في أحسن الاحتمالات.. الشيء الذي يعكس الأرضية الشعبية الهشة التي يقف النظام عليها اليوم.. لكن المعضلة تكمن في أن قوة السلطة تكمن في ثنائية خوف النخبة المرضي (بفتح الراء) من تداعيات الانخراط في النشاط المعارض، وهيمنة الروح القبلية- المسكونة بالولاء الأعمى لأي سلطة- على الصوت الانتخابي، الشيء الذي يحجم ويحد من فعالية وتأثير الطرف المعارض، المنهك والمشبع بالطموحات ذات الطابع الفردي، والذي سعى عبر مسار طويل إلى شق طريق له بين ركام من الرواسب، أدى إلى أن تصبح قناعة المواطن الموريتاني، لا تمثل بالضرورة بوصلته النهائية.

 إن ميكانيزمات النشاط السياسي بالبلد، تتحكم فيها ثنائيتي السلطة والمال، وتغيب فيها أي بادرة توحي بالشفافية، في حين تعاني قوى التغيير من كساح ومن صعوبات جمة تحد من حصول إجماع حول مرشح واحد.. كلها عوامل تدفع إلى الاعتقاد بأنه لن يكون هناك أي تغيير ما لم تحدث مفاجئات.

 فالطرف المتحكم اليوم يصارع من أجل الحفاظ على الامتيازات والمواقع والكراسي، في مواجهة قوى معارضة، قد تكون صادقة في سعيها، لكنها ليست قادرة على الدفاع عن حقوقها أصلا، فضلا عن مزاحمة النظام، بغية تحقيق طموحاتها في التغيير السلمي،.. لذا فإنه من المنطقي- ما دام ميزان القوى مختلا بين الطرفين- الجزم بأنه يصعب أن يحصل أي تحول لصالح الطرف المعارض، لأن ميزان القوى يميل لصالح كفة "تغيير" يقف سدا منيعا في وجه أي تغيير.

 

محمد المختار ولد محمد فال- كاتب صحفي

نوفمبر2018