أحادية القطبية للعالم، والمستندة على أقصى استثمار للحظة التاريخية التي تؤكد ذلك التفوق الكمي و النوعي للولايات المتحدة الأمريكية، مع غياب أي مكافئ عالمي حقيقي منذ تفكك وانحسار السوفييت، ما هي إلا فرصة قد لا تتكرر لبناء النموذج العالمي الجديد، الذي بدوره يحقق مصالح الطرف الأقوى في طموحاته التجارية و السياسية وبدون منازع، كل ذلك قبل نهوض الصين، العملاق الصناعي و التجاري العالمي، والذي يُخشى أن يَخرج عن نطاق “تحقيق المصالح” الاقتصادية المباشرة مع كتلة الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة عبر التصدير، إلى نزعة “تحقيق الذات” والتي تقضي بتحوله إلى قوة كونية منافسة و نموذج بنكهة “مركزية التخطيط” وشمولية النظام.
في ضوء “فترة الفراغ” والتي تمتد من 1991 و حتى 2020 ، كان لا بد من استثمار الفرصة التاريخية لاستفراد دولة (كالولايات المتحدة) في العالم، وما تصورات النظام العالمي الجديد (New World Order) إلا تجسيد للروح الجامحة الأنجلوسكسونية. نحن كعرب في هذه المنطقة أكثر ما يعنينا من ذلك هو (الشرق الأوسط الجديد) ، الذي تتناغم فيه رؤية اليمين المحافظ المتشدد في واشنطن مع رؤية وأمنيات الصهاينة في تل أبيب و أي مكان آخر من هذا العالم.
التصور المثالي للشرق الأوسط الجديد نابع من فهم تاريخي عميق لأطر تكوين الحضارة العربية و الإسلامية، حيث ثالوث لا يمكن تجاوزه عند الحديث عن مستقبل و بقاء إسرائيل، ثلاثية العراق-سوريا-مصر.
لعله كان ينعقد الأمل على تقسيم العراق لثلاث تكوينات فرعية: السنة، و الشيعة، و الكرد بعد انتهاء حكم البعث المركزي عقب تداعيات حرب الخليج الكارثية. و من ثم تقسيم سوريا لأربع مجاميع: الكرد و العلويين و السنة و الدروز بعد تطورات الثورة السورية وتفاقم الصراع هناك. في حين يتم توظيف الملف القبطي و ملف سد النهضة ومياه النيل و ملف انفلات سيناء الأمني لإغراق مصر في سيل من الأزمات لا تكاد تنفك منه لعقود. جميع ذلك كان يمثل الأسس الموضوعية لإنهاء الدور المحوري لثالوث تاريخي متين يمنع تمدد المشروع الصهيوني الأكبر للمنطقة.
مجريات الأمور و تشابك المصالح الإقليمية وتبعات التدخل الروسي و الإيراني و التركي في الصراع الدائر في سوريا و العراق جعل القضية ترتفع لمستوى أكثر تعقيدا، يستحيل فيه حسم الأمور على الواقع. أما في مصر، فاستقرار السلطة هناك، و حسم الملف الأمني في سيناء، و الهدوء في تناول ملف النيل و السد، و إطفاء القلق القبطي، جعل الأمور تسير باتجاه التهدئة.
العقل الصهيوني المبكر، أدرك ضرورة بناء نطاق عازل (Buffering Zone) من شأنه فصل إسرائيل عن الاشتباك المباشر بثالوث العروبة التقليدي، فكان يرى بالبحر المتوسط من جهة الغرب، و صحراء سيناء من الجنوب، و نهر ووادي الأردن من الشرق عازلا طبيعيا وفاعلا. هذا التصور هو مَعيب حيث يتجاهل إمكانيات التقنيات الحربية الحديثة في تجاوز عناصر الزمان و المكان، فجاء التحديث التقني الإسرائيلي لمواجهة تلك الثغرة، وهذا ما تمثله (القبة الحديدية) و توظيف تقنيات الاتصالات و التجسس كاستجابة للمستجدات.
قد يكون من الصعب الحكم بقطعية نجاح أو فشل مشروعي الشرق الأوسط الجديد و النظام العالمي الجديد؛ فهنالك رأي يرى بالفشل الكامل لكليهما، مبررا ذلك بصعود الصين كقوة عالمية منافسة و تمرد روسيا من عقالها، و تفكك الاتحاد الأوروبي و تضارب مصالحه مع الولايات المتحدة في بعض القضايا. ويرى بان سوريا عادت موحدة تحت حكم ذات النظام السابق، وأن العراق تحكمها بغداد بقوة ولا أمل في تفرد الكرد بالاستقلال، وأن مصر آخذة بالتعافي و استرداد الدور و المكانة.
وهنالك رأي آخر يرى بأنه على أقل تقدير قد تم تدمير سوريا و تفكيك بنيتها الاجتماعية و أغرقت الدولة بالديون و تكاليف الإعمار و التزامات اللاجئين. ويرى بأن العراق هو مقسم عملانيا و أن الطائفية هي النموذج الحاكم، وأن إيران تسيطر على مفاتيح السلطة، وأن للكرد حق الاستفتاء للانفصال. و يرى بأن مصر قد وضعت أمام تحديات وجودية بدءًا بمياه النيل و انتهاءً بفوضى سيناء و جدلية الجيش و الدولة.
بين كِلا الرأيين، قد يكون من الواقعي القول بانحسار مشروع النظام العالمي الجديد و فشله الجزئي. وقد يكون من المؤلم القول بأنه قد تم تهشيم و إنهاك ثالوث العروبة التقليدي و تقديمه لمائدة القوى الإقليمية الطامعة، لكن على الأقل لم يتم تمرير مشروع خارطة المنطقة كما رسمت في سايكس-بيكو القرن الجديد.