في مثل هذه الأيام من عام 2011 كان العالم العربي يعيش على وقع حراك شعبي إنطلق بالثورة التونسية التي فجرها الشهيد “البوعزيزي” و إنتقلت شراراتها إلى باقي بلدان العالم العربي فأسفرت عن سقوط أنظمة سياسية عمرت لعقود و نشرت الظلم و الفساد، و حركت هذه الثورات المياه الراكدة و أعادت للنفوس الأمل في الكرامة والحرية والعدل و المساواة، و أحيت حلم بناء الدولة المدنية العادلة و الديموقراطية، و خلقت حالة من الأمل في مستقبل أفضل…
فكل من كان له شرف المشاركة في هذا الحراك الشعبي لا يستطيع أن ينسى تلك الأحداث بحمولتها النفسية و قيمها النبيلة، و يشعر بالأسى لما ألت إليه الأوضاع من تدهور و تفكك لأغلب بلدان الثورة ونجاح الثورات المضادة في الإنقلاب على الواقع الجديد، وتغيير بوصلة الرأي العام و تحريف الأفكار و القيم السامية والسامقة التي حركت الجماهير و دفعتها للخروج بسلمية و تضامن لم يشهد له التاريخ الحديث مثالا.. بل و الأدهى هو أن هناك إتجاه واسع أخد يشكك في هذه الثورات و يعتبرها مؤامرة غربية /صهيونية، و أنها إمتداد لمشروع الشرق الأوسط الكبير و لمفهوم الفوضى الخلاقة الذي أسست له إدارة “بوش الإبن”…
و الواقع أنني أنزه الربيع العربي عن هذا الأمر و أستبعد أن تكون هذه الثورات الشعبية من تذبير أيادي غربية، فالأمر أكبر و أعمق من قدرات الغرب و غيره من القوى البشرية ، و إنما الأمر له صلة بإرادة فوق البشر إنها إرادة الله الذي قذف في قلوب هذه الجماهير روح المقاومة و التطلع للحرية و الكرامة و الانتفاضة ضد الظلم و الطغيان، و السعي لتغير واقع مظلم كاحل، عنوانه الخنوع المذل للأجنبي، و القهر والطغيان الداخلي، فهذه الروح الجمعية التي عمت الميادين و الساحات العامة على إمتداد العالم العربي، لم نكن نراها من قبل و لا من بعد…
فنحن نعلم عقلية شعوبنا قبل الثروة، فمن الصعب حمل ألف من الناس على رأي و موقف موحد، فكيف بتوحيد رأي ووجهة نحو 100 مليون عربي نزلت الشوارع طيلة فترات الربيع العربي؟ بل إن جُل هذه الإحتجاجات جُوبهت بالقمع الشديد و الرمي بالرصاص، و سقطت أرواح و جُرِح الكثير في مشهد يجعل الحليم حيران، ومع ذلك إستمرت الشعوب العربية في مسيراتها و إعتصاماتها في كل من اليمن و مصر و سوريا و البحرين و المغرب و تونس ..فمن هي هذه القوة الأجنبية التي تستطيع أن تحمل الناس على مواجهة الرصاص و القصف بصدور عارية وفي نكران للذات لم نشهد له مثيل، إلا في عصر الرسالات السماوية التي غيرت النفوس و شحنتها بطاقة روحانية رفعت الإنسان عن ماديته و أخرجته من أنانيته و مصالحه ضيقة الأفق، بل ما شهدته الساحات العربية من عنف الأنظمة الحاكمة و مقاومة الشعوب الثائرة، للظلم و القهر و العنف و البلطجة، ما كان يمكن تحمله لو أن هذه الثورات نتاج لمؤامرة أجنبية تم تمويلها و التخطيط لها من الخارج…فليس هناك عاقل يعرض نفسه لرصاص و القتل خدمة للغير و مقابل بعض المتاع.. فمثل هؤلاء المأجورين لن يستطيعوا تحمل تكاليف المواجهة و دفع ضريبة الدم…فالكرامة و العزة و الحرية أمور لا يمكن تحفيزها من الخارج وإنما هي نابعة من الذات المؤمنة بقضية و فكرة …
غير أن ذلك لا ينفي أن هذه الثورات تم توجيهها و تغيير وجهتها نحو خدمة مصالح قوى أخرى، وذلك نتاج طبيعي لحالة الضعف و الوهن التي تمر منها بلدان الثورة، فمهما يكن فالناس ليسوا سواء في قدرتهم على التحمل و الصبر، فإدارة الدولة و ضمان نموها و أداءها بالشكل الأفضل، وقدرتها على الإستجابة لتطلعات الجماهير الثائرة ليس بالأمر الهين ، خاصة في ظل بيئة داخلية وخارجية معادية للثورات وأمالها، و قد تم إستغلال الظروف الإقتصادية و الخصاص الإجتماعي بشكل ذكي من قبل الأطراف المعادية للثورات و لعب المال و الموارد الإقتصادية عنصرا محوريا في لي عنق الثورات الشعبية، و تكبيل حركة الأنظمة السياسية التي أفرزتها الثورات…
فقد تم الإستثمار بشكل مكثف في إعادة عقارب الساعة للوراء و في تيئيس الناس، و تصوير خروجهم على أنه خطأ فادح، و أن الوضع القديم كان أفضل، و أن سلعة الأمن و الإستقرار غالية وثمينة، و لعب المال الخليجي و التخطيط الغربي دورا بارزا في وأد حلم الثورات العربية و تعزيز نفوذ الحرس القديم و الدولة العميقة، و نجح تحالف شبكات الفساد المنظم و القمع المهيكل في العودة إلى المشهد عبر أسماء جديدة و ألوان حزبية مغايرة في الشكل ومشابهة في المضمون…
و أيضا علينا أن نتوخى الحذر في تقييمنا لهذه الثورات، لا سيما عند إضافة الثورة السورية لسجل الثورات العربية، فالثورة السورية و التوجه الذي سلكته بعد نحو عام من إنطلاقها، كان سببا في حالة الإحباط العام الذي شهده العالم العربي و لازال، فتعامل النظام السوري بدموية و سادية مع الثورة، و إخراج الثورة من طابعها السلمي المدني و محاولة تسليح المعارضة و عسكرة الثورة أفرز حالة دموية بسوريا إنتقل تأثيرها إلى باقي الإقليم العربي،و تدخل قوى معادية للنظام السوري و معروفة بولاءها للأجنذة الغربية، و تحديدا بعض بلدان الخليج، رفع منسوب التشكيك في هذه الثورات العربية، و تزكية التوجه القائل بأن هذه الثورات هي مؤامرة غايتها خدمة المخططات الغربية والصهيونية…
و يبدو هذا الطرح سليما بالنظر إلى الحالة السورية المعقدة و ذات الخصوصية المحلية والإقليمية، فلا أحد يستطيع أن ينكر الدور الذي لعبته سوريا في ضمان إستمرار حالة الصراع العربي الإسرائلي بعد إنسحاب مصر، إذ نجح النظام السوري عبر تكتيكاته و تحالفاته، في “فَرْمَلة” مسار الإستسلام للإرادة الصهيونية، فالنظام السوري رغم بشاعته و دمويته قبل الثورة و بعدها، إلا أنه كان ذكيا في التعاطي الجيبوليتكي مع الواقع الإقليمي و الدولي، فقد لعب دورا في إستمرار المقاومة المسلحة في مواجهة الكيان الصهيوني ، و تمكن من إقامة درع مقاومة كانت له فعالية واضحة في مواجهة الإندفاع الصهيوني، منذ توقيع إتفاقية السلام مع مصر و فيما بعد مع الأردن و منظمة التحرير الفلسطينية، فالوضع السوري كدولة مواجهة جد معقد و لا ينبغي ربطه بباقي بلدان الربيع العربي…و التدخل الخليجي تحديدا في الثورة السورية و عسكرة الثورة كان في واقع الأمر مؤامرة ضد الشعب السوري، فهناك قاعدة تقول لا حرب مع إسرائيل بدون مصر و لا سلام بدون سوريا.. ووفق هذه القاعدة علينا تحليل الحالة السورية، فهي حالة فريدة لا تنطبق خصوصيتها و ظروفها على باقي البلاد العربية …
و لا يعني موقفي هذا تحيزا للنظام السوري فهو نظام مجرم في حق شعبه، و الإطاحة بالنظام و محاسبة الجناة و القصاص للقتلى و الجرحى و المشردين المدخل لتحقيق أي مصالحة مستقبلية، وذلك بنظري أضعف الإيمان لجبر الضرر.. لكن ذلك لا يمنعنا من الإقرار بأن النظام السوري نجح في حرمان إسرائيل من الإستمتاع بثمار السلام و الأمن مع العرب، فقد تم حصارها عبر دعم الفصائل المقاومة و إحتضانها و دعمها بالمال و السلاح، و أسطورة حزب الله و قدرته على مواجهة إسرائيل عام 2006 و “مذبحة الدبابات” و قصف العمق الصهيوني ما كان لها أن تتحقق لولا الدعم السوري، و تحمل النزاع السورية المسؤولية السياسية في دعم خيار المقاومة…
و خلاصة القول، أن الثورات العربية تم إستغلالها لكن لا يصح أن نصفها بأنها نتاج و إفراز لمؤامرة أجنبية، فلو إفترضنا أن هذه القوى لها الكفاءة والقدرة لتوجيه ملايين الشعوب بالشكل الذي رأيناه و عايشناه يوما بيوم، و دفعها للصمود و الإعتصام بالشوارع لشهور و في ظروف جد قاسية، فكان أولى لهذه القوى الأجنبية – الخارقة- أن تقنع الشعوب بالخضوع و الخنوع للأنظمة التي تم إسقاطها، خاصة و أنها أنظمة كانت تخدم مصالح الغرب بكفاءة فائقة، في مقابل قمع وتجويع و نهب ثروات شعوبها بنفس الكفاءة و الفعالية…
فالشعوب خرجت بعد 2011 بتلقائية و عفوية،و ما حدث هو ثورة لكن هذه الثورات لم تكتمل بعد، و لم تحقق أهدافها كاملة، بفعل التكالب الأجنبي و تحالف قوى الفساد و القمع و الطغيان من أجل إفشال هذا التطلع الشعبي، لكن خميرة الثروة لازالت قائمة و حركة المد و الجزر قائمة و قانون التدافع يفعل فعله ، و المعركة مستمرة، و القادم من الأيام و السنوات سيؤكد لكل المنتقدين أن الشعوب العربية إنتفضت من أجل الحرية والكرامة ونبذ الظلم و الطغيان، وليس خدمة لمشاريع أجنبية وتنفيذا لأجندات صهيونية أو غربية …و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون …