وانطفأت شمعة الشيخ التي ظلت مضيئة لعقود ظلت مبتسمة لعقود وظلت تحرك لسانها بذكر الله لعقود.
احاول ان اعثر في تلافيف ذاكرتي او في مخيلتي على صورة للشيخ على ان يكون عابسا فيها او لايبتسم..حاولت ان اجده صامتا ولايحرك لسانه بالقرآن،لا اثر لتينك الصورتين.
اعتقد انني التقيته مرات قليلة للأسف طبعا،وكلها باستثناء واحدة في زيارة له لأحد المرضى من اقاربنا المشتركين، سمعت ككل الناس بالرجل منذ الصغر،سمعت بقصص تروى عن نجاحاته العلمية في المغرب وسياراته الغريبة وقصره المنيف وعيادته التي تحولت الى مستشفى خيري وانساني، في مراكش كانت العيادة قبلة للقادمين من موريتانيا والصحراء وحتى من فقراء البلاد نفسها."الفقراء هنا لايدفعون"، وكلهم طبعا فقراء حين يكونون خارج البلاد لضعف العملة التي يحملون،لعقود منح الرجل جهده وعرقه لأبناء وطنه مع ابتسامة عريضة انا موقن انها لم تفارقه حتى وهو في مدافن مراكش.
ايها الشيخ الطيب الجميل الغض المبتسم،ياحامل كتاب الله في قلبه فتكلم به لسانه،ياايها المشخص امراضنا،قيل لي إنهم اذ قدموا لك الأشعة الخاصة بمرضك،نظرت باسما وقلت:"لايغني حذر من قدر،حاولت ان اظل سليما من كل مرض، لكن الله فعال لمايريد"،ثم وضعت الصور على المنضدة معلنا نهاية لم يتقبلها محبوك وما اكثرهم.
التقيتك آخر مرة حين عدت من رحلتك الاستشفائية الأخيرة،كنت كما كنت دائما،تضحك وتهز رأسك موافقا وتستمع لكلام زوارك وهم يشكرون الله على عودتك ولاتغتر بالذكر الحسن، ثم تحاول ثني احدهم عن الكلام حين يفشي جهدا بذلته لأجله ومالا منحته اياه واستشارة طلبها منك في غير وقتها،نصف ساعة كان ذلك اللقاء، ثم صعدت السلالم ولم تبصرك عيناي بعدها،اتخيلك تصعد وئيدا وئيدا ويدك تحاول جمع دراعتك،كنت تسير هكذا حتى في قوتك لذا لم نقلق،هو الشيخ الهادئ كما عهدناه.
وفود تأتي وأخرى تغادر والجميع منشغلون ومهمومون ويريدون الاطمئنان على الرجل العجيب.
ايها الشيخ الذي اختلفنا معه حين انضم للحكومة واتفقنا معه بعدها حين خرج منها وكشف اخطاءها تماما كما اتفق معه آخرون حين كان هناك واختلفوا معه حين خرج منهم وعنهم،جميعنا بأغلبيتنا ومعارضتنا كنا نحترمك كشخص وطباع واخلاق واستقامة ورفق وبر بالمستضعفين.ولم يقدر اي منا على التشكيك في تعففك وصدقك وايمانك بماتقول حتى لو كان رأيك او توجهك مخالفا لمايعتقده بعضنا.
لن اطيل،فالمرضى سيتحدثون لاشك، الأحياء منهم لديهم شهادات عنك بالآلاف اما الأموات فكانوا ينتظرونك في مقابر الوطن، وبما ان نداء الأم اولى دفنت بعيدا عنا، لكنني رغم ذلك واثق ان بين تلك القبور امواتا عرفتهم وعرفوك فكنت لهم سندا وكنت بهم برا عطوفا وكنت لهم بلسم شفاء،ولا أشك انهم كانوا ينتظرونك في مراقدهم ليقيموا حفلا بهيجا شكرا لله ان ارسلك اليهم فقلبك العامر بالقرآن خير انيس وخير جار.
لقائي قبل الأخير معك كان في مصحة الشفاء كنت قد شخصت لنا مرض الوالد قبل ذلك بسنة، ونصحتنا بشأنه ثم بعد سنة كنا مجتمعين في مكتبك بعد صلاة المغرب ننتظر الدرويش حامل السبحة ليفرغ من استغفاره عله يخبرنا عن حقيقة الوالد،ثم بدأت تقرأ بعينيك المشعتين مابين تلك الأشعة الطلاسم وادرت وجهك نحوي ثم ابتسمت: لقد اختفي الورم من جسد الوالد حفظه الله..بكيت واخوتي فرحا وحمدا لله،هل تعتقد بعدها انني سأنسى وجهك وتلك الكلمات والارشاد والتوجيه اصلا، ثم هديتك لي هذه.
منحتني واهلي جميعهم اجمل شعور في الكون لذا ستظل كلماتك تلك حلقا في اذني وابتسامتك كحلا في عيني، وامثالي كثر والحمد لله.
سيدي الفاضل
مرضاك احياء، وانت ميت، هكذا يفعل الملاح الشهم بركابه.
انتهت رحلتنا القصيرة معك في هذه، لذا اقول لك: كنت احبك ومازلت وسأظل،كنت معجبا بتاريخك في البذل والعطاء والمنح والتصدق والاكرام والزهد وكم كنت اغار اكثرمن علاقتك الغريبة بالقرآن.في النهاية سأقول لك ايضا رحمك الله وغفر لك يوم ولدت ويوم تموت ويوم تبعث حيا.
ولوالدي الغالي عبد الرحمن اقدر فاجعتك لكنها فاجعتنا جميعا
اصبر نكن بك صابرين فانما
صبر الرعية بعد صبر الراس
خير من العباس اجرك بعده
والله خير منك للعباس
ولآل حرمة الأكارم :دفنتم الزعيم حرمة رحمه الله فكان الشيخ رحمه الله ودفنتم الشيخ فكنتم انتم..ومحال ان ينتهي الليمون.
رحمه الله وغفر له وادخله الجنة والهمكم الصبر والاحتساب بعده وانا لله وانا اليه راجعون.
محمد الأمين ولد محمودي