قبل انطلاق الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة، وجهت لأبناء بلدي رسالة شرحت فيها دوافع خوض الانتخابات والخط الذي أنوي انتهاجه إذا هيأ اللـه لي دخول الغرفة النيابية، وقد كان ذلك بحمده سبحانه ثم بثقة مواطنين يستحقون علي أن أظل وفيا لهم ولسائر أبناء وطني العزيز.
لقد قلت يومئذ إنه إذا كان علينا – بحكم القانون - أن ندخل من أبواب متفرقة، كما دخل إخوة يوسف، فإن علينا أن ندخل إخوة كما دخلوا، نتجه إلى نفس الهدف ونحمل نفس الهم، ونعمل يدا في يد من أجل مصلحة الناس اليوم وغدا. ورجوت ألا يكون لأي منا خندق إلا خندق مصلحة موريتانيا وأجيالها القادمة.
ووفاء لذلك الخيار، حاولت في المناسبات التي أتيح لي الحديث فيها علنا وفي اجتماعات اللجان المغلقة أن أحمل تلك الرسالة؛ أن أصدع بالدعوة لكسر الحواجز، والتخفيف من حدة الاستقطاب، فدعوت إلى أن تقوم الموالاة على النصح حتى لا تكون غشا، وأن تقوم المعارضة على الموضوعية حتى لا تكون حيفا، وأن نخرج من خنادقنا ونكون صفا واحدا كالبنيان المرصوص، كلما تعلق الأمر بمصالح بلدنا العليا وبمستقبل أجياله، وأن تتسع صدورنا لما هو طبيعي ومتوقع من اختلاف في وجهات النظر في الشأن الآني، ما لم يكن هناك مساس بالثوابت الكبرى الجامعة.
من تلك المنطلقات، وإيمانا بأن أفضل إعلان ولاء هو النصح الصادق، وبعيدا عن أي متاجرة سياسية، أشعر بأن علي اليوم أن أخاطب زملائي النواب، وأخاطب عامة أهل بلدي، في فضاء أوسع من فضاء الدقيقتين أو الثلاثة أو الخمسة دقائق التي يتيحها النقاش النيابي العلني، لأتساءل مع المتسائلين: هل يعي الداعون إلى تعديل الدستور، بعد أن عدلناه مرتين خلال خمس سنوات، العواقب المحتملة لهذا المسعى؟
هل من مصلحة البد أن نبادر فنعلن أننا غير جاهزين للتداول السلمي السلس على الحكم؟
هل من مصلحة البلد أم من مصلحة رئيسه أن يُقسِم، غير مكره، فنحمله على الحنث، مهما كانت التأويلات والحيل الشرعية الممكنة، وأن يَعِد بملء حريته وكامل وعيه فندفعه دفعا إلى أن يخلف وعده، مهما كانت التعلات والمعاذير؟
لو وقع ذلك من عبد من عباد اللـه البسطاء، لأنكره عليه كل محب له مشفق عليه، ولكان من واجب كل آمر بالمعروف ناه عن المنكر أن يذكره بالآية المحكمة {وأوفوا بعهد اللـه إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم اللـه عليكم كفيلا إن اللـه يعلم ما تفعلون. ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم}، وأن يقرأ عليه حديث آية المؤمن وآية المنافق، وأن يقول له: لأني أحب لك ما أحب لنفسي أربأ بك عن هذا، ولا أريدك أن تكون عرضة للمز اللامزين وهمز الهامزين ممن لا يهمهم النصح وإنما يتصيدون العثرات ويتتبعون العورات.
هل ننكر على بائع رصيف أو عامل سباكة أو راعي غنم مثلا، وأكرِمْ بهم، أن يُخلِف أحدُهم وعده أو يحنث باختياره وقد أقسم، ثم لا نجد أي حرج في أن نحمل على الحنث والخلف رعاة الشعوب والأمم، ممن هم لرعيتهم بمثابة الأب الذي يعتبر أبناؤه سلوكه معيارا للحق والفضيلة؟ أليس الرئيس مؤتمنا على حراسة القيم والأخلاق الفاضلة، كما هو مؤتمن على صون الحوزة الترابية واحترام الدستور، ومنع أي كان من المساس به، إلا بشروطه وآدابه المعلومة.
هل هي ضرورات تبيح المحظورات؟ منجزات مهمة تحتاج إلى متابعة؟
نعم، للرئيس منجزاته، كما لرؤساء خلوا منجزاتهم في بلدنا وفي طول الأرض وعرضها... أنجزوا جميعا ما أنجزوا، قل أو كثر، وغادروا بهذه أو تلك، وكان أهداهم سبيلا من غادر وهو يقول "بيدي لا بيدي عمرو"، فكان سيد قراره. أفنضنّ على رئيس بلدنا بأن يضع في سجل منجزاته صدق الوعد، والبر بالقسم، واحترام القيم وصيانة الدستور؟ أم يريد له بعض إخوتنا أن ينقض غزله؟
في أي مناخ نفسي واجتماعي وسياسي، تريدون أن يواصل رئيس برنامجه وهو واع بما قال من قبل، والناس من حوله يستعيدون بالصوت والصورة القسم والإعلانات المتكررة بإغلاق ملف المأموريات؟
ألا تحتاج ممارسة السلطة العمومية إلى قدر كبير من راحة الضمير؟
ثمّ، هل يريد إخوتنا أن يقولوا، أو يريدون للرئيس أن يقول - بلسان الحال - إن شعبنا لم يبلغ الفطام، أو إن بلدنا عقيم، لم تَجُدْ أرحام نسائه الطاهرات بمن يستطيع أن يواصل المسار ويقود السفينة إلى بر الأمان؟ هل يريدون له أن يقول "أنا أو الطوفان"؟ أم يريد بعضنا أن يتهمه، بوعي أو بغير وعي، بأنه لم ينجح – ولا من سبقوه - في بناء مؤسسات تعمل بحضور من حضر وغياب من غاب، حتى يكون باستطاعته، وباستطاعة أي رئيس قادم، أن ينسحب آمنا قرير العين مطمئنا على بلده؟ وعلى فرض أن الأمر كذلك، فهل أجدى فيه من أن نعجم عود قياديينا فنضعهم على المحك واحدا تلو الآخر، وفق مواثيق متواضع عليها؟
نعم، للرئيس منجزاته، وليس قطع العلاقات مع إسرائيل انحيازا لخيار الشعب بأقلها شأنا... لكن كيف نصون تلك المنجزات وننميها ونسد ما فيها من خلل؟
نعم، للقائد دور مهم خصوصا في المجتمعات التي تعاني من الأمية والفقر، أحرى تلك التي ليس لها إرث تراكمي في الإيمان بالدولة المركزية والخضوع لها... لكن هل نضب فينا معين القيادة؟
نعم، هناك تحديات كثيرة وكبيرة نحتاج إلى أن نواجهها بخلطة محكمة من الحكمة والشجاعة والبصيرة النافذة والتدبير السديد.
لكن أخشى ما نخشاه أن يؤدي المسار الذي يقترحه أصحاب المبادرات، رغم ما يفترض لهم من حسن نية، إلى نتائج عكسية، تشوه المنجزات، وتعمق الشروخ، وتضيف تحديات إلى التحديات، وتلك مخاطر يشد بعضها بعضا، كثيرا ما تلوح في الأفق حين يشعر الناس أو بعضهم بأن طريق التداول السلمي السلس على السلطة لم تعد سالكة، وحينما يكتشفون أن كلمة الحر إنما هي كلام ليل يمحوه النهار أو العكس. وقد عبر الرئيس نفسه عن هذه المخاوف حين قال على رؤوس الأشهاد إنه مقتنع بأن تعديل الدستور، في المادة المتعلقة بالمأموريات، ليس في مصلحة البلد، وحذر من التلاعب به وتغييره لمصلحة شخص أو أشخاص، وقال إن الدستور يجب أن يبقى ليكون وسيلة لترسيخ الديمقراطية لفائدة الجميع. وقال إن صفحة المأموريات مغلقة وإنه لن يقبل لأي كان أن يتخذها وسيلة لزعزعة البلد، وفي ذلك إشارة واضحة إلى انتباهه لما قد يفتحه تجاوز أمد المأموريتين من أبواب الفتنة.
*دعونا نفتح قليلا سفر التاريخ لنفهم كم هي واردة تلك المخاوف، أو كم هو وجيه الحد من المأموريات. ولنبدأ بصفحة يفترض ألا يتمارى فيها اثنان من أهل بلدنا.
لم تنجب البشرية في تاريخها الطويل قائدا أعظم من محمد بن عبد اللـه صلى اللـه عليه وسلم. لقد أسس دولة الإسلام الأولى وحكمها عشرة أعوام لا غير (مأموريتين بمقاييسنا اليوم)، وحين خير بين البقاء والرحيل، اختار الرحيل، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام. لم يقل إن أمامه برنامجا طويلا لم يكمله: هناك تحديات أمنية قادمة من أجلها عقد اللواء لجيش لم يتحرك بعد. هناك ثروات جمة متوقعة تحتاج إلى عدله وكرمه وسخائه وحكمته وحدبه على الفقراء والمساكين.. هناك أقطار واسعة نحتاج إلى أن تفتح دون أن يظلم فيها أحد.. لا مصر فتحت يومئذ، ولا الشام ولا العراق وبلاد فارس، ولا إفريقية، ولا القسطنطينية وبلاد القوقاز، ولا الأندلس، ولا بلاد الهند والسند والصين، ولم يرتفع بعد الأذان في العالم الجديد.. وكل ذلك من برنامجه عليه الصلاة والسلام. لم يتعلل قائد الدولة يومئذ بعظمة التحديات وجسامة المسؤوليات من أجل تمديد العهدة، بل اختار عليه الصلاة والسلام الالتحاق بالرفيق الأعلى. أعلم أنها حقبة فوق المقاييس البشرية، وقرار لا يقارن بقرارات القادة، فللـه المثل الأعلى ولرسوله، ولكن أتساءل: ألا يمكن أن يكون في تلك العشرية المقدسة إشارة إلى أن عشر سنوات في القيادة تكفي لإنجاز برنامج وتسليم اللواء لآخرين؟
لقد أنجز النبي الأكرم صلى اللـه عليه وسلم مهمته، وترك خلفه رجالا ليسوا بأنبياء لكنهم واصلوا برنامجه وأنجزوا، ونشر جلهم عدل الإسلام ورحمته وسماحته وعفته... أتذكرون كم كانت مدة حكم الرعيل الأول منهم؟ اثنان حكما أقل من عشر سنوات (أبو بكر حكم عامين ونصف عام وعلي حكم خمسة أعوام)، واحد حكم بالضبط عشرة أعوام (مأموريتين)، وهو عمر الفاروق. وثالث الأربعة عثمان بن عفان هو وحده من جاوز تلك العتبة، وكان ما كان بعد العشرة أعوام من الفتنة التي ما تزال تجر ذيولها إلى اليوم، هذا على الرغم من عظمة فتوحاته وعدله وسخائه وقد كان ينفق من حر ماله على المسلمين (وقد كان من أبرز أغنيائهم)، رضوان اللـه عليهم أجمعين. لكأنّ العهد الراشد حمل إلينا رسالة بتحديد المأموريات بسقف زمني، ما تجاوز العشرة أعوام، إلا وقد انفتحت أبواب الفتنة. نعم، هناك حكام مسلمون، عبر التاريخ وفي بلدنا، حكموا مددا أطول، لكن دون أن يكون أي منهم في موقع الحانث أو الناقض لعهده بالتزام مدة معينة. ولم يكن لطول الولاية كبير أثر في المكانة التاريخية لأولئك الحكام، فإن عمر بن عبد العزيز الذي لم يحكم إلا عامين ونصف كان، بعدله وورعه، أبقى في التاريخ وأمكن في الذاكرة من كثير ممن حكموا أكثر من عشر سنين، وكذلك احتجز القائد قطز لنفسه - رغم أنه لم يحكم إلا عاما واحدا - صفحة مميزة في السجل الذهبي لتاريخ الأمة، بانتصاره في معركة عين جالوت، بعد أن باع ووزراؤه وقادة الدولة كل ما يملكون وحلي نسائهم من أجل تجهيز جيش المسلمين لصد الغزو التتري.
في العصر الحديث، هناك دروس أيضا يحسن ألا تغيب عن البال. لقد اجتهد مانديلا في تحرير شعبه ومصالحة مكوناته، وترك السلطة طواعية فور انتهاء مأموريته الأولى (5 سنوات) وغادر وهو في عنفوان شعبيته، وبذلك حجز لذكره مكانا في التاريخ لا في بلده فحسب، بل في العالم أجمع.
وقبل مانديلا، حرر ديغول بلده من الاحتلال، وتسلم الحكم، وغادر بقرار منه في يوم سبت وصفه محبوه بأنه يوم أسود، واستمرت فرنسا من بعد الرجل الذي قال حين ذكروه بحاجتها إليه "كم في المقابر من رجل لا يُستغنى عنه!"، وقال للصحفيين حين سألوه عن حاله: "أنا بخير، ولكن ثقوا بأنني لن أفلت من الموت". وبقي ديغول في ذاكرة التاريخ.
وغير بعيد منا، قال سنغور كلمته المشهورة عندما قرر طواعية الانسحاب من السلطة "ينبغي أن نعلم كيف نغادر"، وحفظ له شعبُه من الود ما حفظ، واستمرت مسيرة السنغال. وفي السودان، وفي أجواء انتفاضة شعبية، تسلم الرئيس الراحل عبد الرحمن سوار الذهب السلطة، وقرر أن يتنازل عنها بعد عام، ووفى بوعده واعتزل السياسة وتفرغ للعمل الخيري إلى أن ارتحل من الدنيا وأهل بلده، والمستفيدون من عمله الخيري عبر العالم له محبون، رحمة اللـه عليه.
بخلاف أولئك، هنالك زعماء تَعرِف منهم وتنكر توهموا، أو أوهمتهم شعوبهم، أو بعضها، أن الحياة لا تقوم بدونهم، ثم انتهى المطاف بهم وبشعوبهم إلى حيث أدركوا، ولو بعد فوات الأوان، أن القيومية للـه وحده، ولكل أجل كتاب.
من هؤلاء قادة في منطقتنا بنوا وأنجزوا وبدوا محبوبين، استمرأ بعضُهم طعمَ السلطة وهمّ بتمديد إقامته فيها، ووجد من أنصاره (وربما من خصومه) من نصحه بذلك. وكان بيننا وبين أولئك القادة من جسور الود ما دفعنا إلى نصحهم بأن يرتبوا خروجهم الآمن، بقرار هم سادته، لكنهم اغتروا بكلام أولئك الذين يدّعون أنهم إليهم أقرب وعلى مكانتهم أحرص. وكانت العاقبة أن رحلوا اضطرارا لا اختيارا، وقد صدق فيهم قول ابن الصمة:
أمرتهمُ أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد.
تلك دروس ينبغي أن نتدبرها وتعيها أذن واعية، حتى لا يقع لبلدنا ما وقع لأولئك.
*أومن، مع بعض إخوتي الداعين إلى التمديد، بأن الدستور ليس قرآنا، ولكنني أؤمن أيضا بأن العقد شريعة المتعاقدين وأن الدستور، بعد الأوامر الربانية والنبوية، هو العقد الاجتماعي الأكبر بين الحاكم والمحكوم، ولا ينبغي أن نسترخص تغييره كما نستسهل استبدال ثيابنا بين يوم وآخر. لا نريد أن نعيد طباعة التعديلات الدستورية المتسارعة في عهد اضطرابات الدولة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن العشرين حيث كان الدستور يعدل مرة كل عامين أو ثلاثة أعوام تقريبا.
لقد اجتمعت لموريتانيا في عمرها الحديث ستة دساتير تنضاف إليها مواثيق دستورية لنكون بذلك من أكثر البلدان انقلابات ومن أكثرها تعديلات للدستور في حيز زمني محدود، رغم أن بعض قوانيننا لم تعدل منذ عهد الاستعمار!
وتلك دوامة يتعين علينا أن نخرج منها، بشيء من الصبر على دساتيرنا عندما نقرها، وبأضعاف ذلك من الطبخ على نار هادئة، تحريا للإتقان وتكريسا للوفاق، عندما نقرر تعديلها.
ثم إن القضية مرة أخرى ليست قضية الدستور فقط.. إنها قضية القيم التي لا قوام للدول ولا للأمم بدونها. ومن العجب أن تحمل أيا منا محبة الرئيس على تعريضه لأكبر أذى معنوي يمكن أن يتعرض له إنسان عادي، أحرى من يحكم بلدا، وهو أن نعرّيه من لباس القيم، فنظهره بمظهر المتناقض مع نفسه، الناقض لعهده، الحانث في يمينه، المتوهم أن الحياة لا تقوم بدونه، والحال أنه هو نفسه لا يفتأ يكرر التزامه.
هل هناك معارضة للرئيس أكبر من أن ننصب له هذا الفخ الخطير، بكل ما يمكن أن يكون له من تبعات وعواقب؟
أفترض للإخوة النواب جميعا ولغيرهم من أصحاب مبادرات التمديد حسن النية، وأدعوهم إلى أن يضيفوا إلى حسن نيتهم جرعة أكبر وأعمق من النظر في العواقب والتبصر في المآلات، والحرص على كرامة الرئيس وسمعته وعلى مضمون القصة التي ستكتب عنه، كما قد تكتب عن أي منا، حين يكون المرء حديثا بعده.
وأفترض أن الرئيس الذي نحب له من الخير والسلامة ما نحب لكل قائد ولكل فرد من أبناء بلدنا، سيكون يقظا، وسينتبه إلى أن ثمة فرقا بين أصدقاء الكرسي وأصدقاء الشخص الذين يحبون له الخير صادقين، ويكرهون أن يصيبه أي أذى نفسي أو معنوي أو بدني. ولعل له أصدقاء من هذا النوع لا يسمع أصواتهم، ولا تصوب نحوهم العدسات في مهرجانات المبادرات.
أرجو أن أكون بالنصح الصادق أحد هؤلاء الأصدقاء، فإني - وبكل صدق - لا أحب أن يناله ولا أن ينال أي مواطن في بلدي أي أذى... أريد لهذا الرئيس أن يمارس حقه الطبيعي في أن يمهر مأموريتيه بختم وفاء وصدق وأمانة. أريد له ذلك لأني أحب له من الخير ما أحب لنفسي ولكل أبناء وطني الغالي.
لقد استطاع اثنان من رؤسائنا السابقين أن يخرجا مخرج صدق، بقرار ذاتي معلن: أولهما كان الرئيس اعلي بن محمد فال، رحمه اللـه، فقد وفى بوعده بمغادرة السلطة رغم أن كثيرين نصحوه بالبقاء فيها، وكان لي معه حديث صريح في هذا الشأن تقبله برحابة صدر. قلت له يومئذ إن الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه، ومعه إخوته القادة العسكريون، خير له ولهم من الحكم مدى الحياة، لو كان ممكنا. وفي النهاية عرف الرئيس اعلي كيف يخرج من السلطة بسلام، ودخل التاريخ.
أما الثاني فهو الرئيس سيدي محمد بن الشيخ عبد اللـه حفظه اللـه، وهو مدني استثنائي انفرد بالوصول إلى السلطة من خارجها في انتخابات شفافة، وأرغم على مغادرتها بعد 15 شهرا فقط دون أن يُمنَح فرصة استيفاء مأموريته الأولى، لينجز أكثر وليصحح ما قد يكون أخطأ فيه. قاوم الرئيس المنتخب وقاوم معه طيف واسع من الموريتانيين ودعاة الشرعية إلى أن أتيح له من أسباب العودة ما يؤهله لأن يأخذ قراره بنفسه، فعين حكومة انتقالية وألقى خطاب استقالته المشهود إيثارا لمصلحة الوطن، وخرج من السلطة ليدخل التاريخ.
واليوم لدينا رئيس نخشى أن يكون فينا، وإن بحسن نية، من لا يريد له أن يخرج مخرج صدق، ونتطلع مع كثيرين ممن يحبون له وللوطن الخير إلى أن يدخل التاريخ من باب كبير هو باب البر باليمين والوفاء بالوعد واحترام الدستور.
لكأني بالشاعر يخاطبه ويخاطب من ينصبون الفخاخ من حيث لا يدرون وهم يمهدون السبيل :
قدّرْ لرجلك قبل الخطو موضعها
فمن علا زلقا عن غرة زلجا
ولا يغرنك صفو أنت شاربه
فربما كان بالتكدير ممتزجا.
ولعل الرئيس يقطع الشك باليقين، ويعود ببلده إلى جادة التداول السلمي السلس على السلطة ليكون ذلك منجزا من أعظم منجزاته.
ذلك مقتضى حسن الظن به وبمن حوله.
وعلى اللـه قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين.