منذ عامين أو أكثر بقليل في أحد مقاهي الجيزة جنوب العاصمة المصريّة القاهرة. وفي خضم حديثي مع صديقي الموريتاني الّذي يحضّر الدّراسات العليا في كليّة الإعلام بجامعة القاهرة بالإضافة إلى التحاقه بمعهد الدّراسات الأفريقيّة.
سألته بوضوح عمّا إذا كان يعتقد أنّ الرّئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز سيعدّل الدّستور الّذي لا يسمح للرّئيس بالتّرشح لأكثر من دورتين رئاسيتين. وذلك بموجب الدّستور الّذي تمّ إقراره عام 2006 بعد الإطاحة بالرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع. وقد كان ردّه أنّه لا يعتقد ذلك وأنّ الرّئيس القادم لموريتانيا هو الفريق محمد ولد غزواني وزير الدّفاع.لكن في قرارة نفسي لم أقتنع بذلك واعتبرته تفاؤل شاب بمستقبل وطنه خاصة أن الرئيس عزيز أتى إلى الحكم بانقلاب عسكري على حكم مدنيّ ديمقراطيّ تمّ انتخابه من قبل الشعب الموريتاني بأنزه انتخابات ديمقراطية عرفها الوطن العربي على الإطلاق!
لكن يبدو أنّني أخطأت مثل كثير من المحلّلين في موريتانيا وخارجها وصدق صديقي ويرفض الرّئيس عزيز دعوات منافقيه بتعديل الدّستور ليبقي في الحكم مأموريات رئاسية أخرى. ويصبح في شبه المؤكد أن الفريق غزواني هو مرشح الحزب الحاكم للرئاسة لتعيد موريتانيا مرة أخرى، بصرف النّظر عن تفاصيل كثيرة، تقديم نفسها كنموذج للدّول العربية لتداول السلطة حتى لو كان هناك بعض الشوائب!
سألني ناشط موريتاني عن إمكانية وصول الفريق غزواني إلى السلطة.فهل هذا يسمى تناوب ديمقراطي للسلطة ؟! نفيت بوضوح،لأنّ هذا ليس تناوباً ديمقراطياً للسّلطة. لكنّه لا شك أنّه خطوة باتجاه التناوب الديمقراطي وأن السياسة هي فن الممكن وهذا أفضل بكثير من تعديل الدستور وترشح الرئيس عزيز مرة أخرى.
بالطبع هذا الحديث لن يعجب اليساريين والليبراليين والنخبة المثقفة الذين تنقصهم دائماً خبرة التجربة، ويريدون أن يجلبوا لنا نموذجاً ديمقراطياً غربياً لا يتناسب أبدا مع معطياتنا في الوطن العربي. والغرب نفسه أصبح مقتنعاً بعدم جدوى هذا النموذج من الديمقراطية معنا وهذا سبب موقفه المخزي من ثورة شعب السودان وسكوته عن قمع البشير للمتظاهرين السلميين.
فعن أية معارضة يتحدثون ويريدون أن يصلوا بها للحكم ليتحقق هذا التناوب الديمقراطي؟!هل يوجد في أي بلد عربي معارضة حقيقية ؟!أم أن هناك إسلاميين ينتظرون الفرصة للانقضاض على الحكم دون جدارة أو استحقاق بشعارتهم الدينية الجوفاء مستغلين عقود من الجهل والتجفيف السياسي. وصدق الرئيس عزيز عندما وصف الإسلاميين مسبقا بأنّهم أخطر على الأوطان من إسرائيل.
التجربة سيدة الواقع دائماً. انظروا ماذا فعل الإسلاميون بأكبر بلد عربي وأفريقي "السودان".بعد أن وصلوا إلى الحكم عام 1989 قاموا بانقلاب عسكري تحت مسمى"جبهة الانقاذ"بقيادة عمر البشير وحسن الترابي على حكم مدني منتخب أتى بانتخابات ديمقراطية شفافة عام 1986. بما يشبه كثيراً التجربة الموريتانية عام 2007 فها هم مازالوا في الحكم بعد ما يقارب الثلاثة عقود،عدّل فيها الدستور عدة مرات ليظلوا في الحكم قسم فيها السودان وانفصل جنوبه وقامت الحروب الأهلية شرقه وغربه وافتقر شعبه. وعندما خرج مؤخراً في ثورة سلمية يشكو فقراً وعوزاً وحرية مطالب بإسقاط نظام الإخوان أو"الكيزان"، كما يطلق عليهم في السودان. صرح الرئيس السوداني عمر البشير أن هذه مؤامرة على الإسلام والمسلمين وطالب بجز رؤوسهم جميعاً!
وفي مصر أجاز البرلمان مؤخراً مناقشة تعديلات دستورية تجيز للرئيس السيسي البقاء في الحكم حتى عام 2034 , تعديلات لو أقرت الله وحده يعلم عواقبها علي مصر.
هذا المصير المجهول تجنبته موريتانيا بعدم رضوخ الرئيس ولد عبد العزيز لرغبة الفاسدين والمنتفعين الذين حوله بتعديل الدستور بما يسمح له الترشح لمأموريات رئاسية أخرى.فالجمهورية الإسلامية الموريتانية تستعد الآن لمرحلة جديدة خاصة بعد اكتشافات حقول الغاز وتأهبها لتكون دولة غنية.بالإضافة لكونها ستصبح دولة فيها تداول سلمي للسلطة حتى لو كان من داخل النظام نفسه. فكثير من التجارب الأفريقية الناجحة حدث فيها التغيير والقضاء على الفساد من داخل النظام الحاكم نفسه عندما كان هناك تداول سلطة داخله. ومن المرشح أن تنضم موريتانيا لهذه التجارب الناجحة خاصة مع مرشح مثل الفريق غزواني الذي يتردد أنه يرفض أن يكون مرشح الحزب الحاكم. ويريد أن يكون مرشح الإجماع الوطني بالإضافة إلى إجماع المقربين منه أنه رجل رزين قليل الكلام والظهور في وسائل الإعلام، صارم ومنظم، دقيق في مواعيده ويمتلك ثقافة واسعة. كما أن له مكانة اجتماعية مرموقة فهو ابن بيت علم وسيادة وينحدر من منطقة الوسط التي يعرف أهلها بالتحضر والانفتاح فلا شك أن هذه مواصفات رائدة نهضة منتظرة .
شكراً معالي سيادة الرئيس محمد ولد عبد العزيز , شكراً للرئيس الراحل أعل ولد محمد فال على هذا الدستور العصري والسباق في الوطن العربي آنذاك. شكراً للمجتمع المدني الموريتاني الًذي أدعي أنني كنت جزءاً منه للتصدي لمحاولات العبث بالدستور. شكراً على هذا النموذج الذي وإن لم يكن كاملاً فلا شك أنه نموذج عزيز جداً في الوطن العربي !