شكلت بشاعة صورة الجثمان المتفحم، التي نشرتها مؤخرا بعض المواقع الإخبارية، للشاب المغدور محمدو ولد بَرُّو، صدمة هائلة، هزت كيان المجتمع الموريتاني على الأصعدة الدينية، والأخلاقية والمجتمعية والثقافية، كما أنها دقت ناقوسا خطيرا يفترض بأن تردد صداه المخيف بات مسموعا بشكل مدو في أوساط الدولة والسلطات السياسية وكذا الأجهزة الأمنية المختلفة.
وإلى أن تتكشف ملابسات هذه الجريمة الوحشية بكل أبعادها، وتتضح خلفياتها الحقيقية -بعد أن تتمكن الأجهزة الأمنية المختصة من إلقاء القبض على الجناة وإحالتهم إلى العدالة- ستظل الجريمة تطرح بإلحاح العديد من التساؤلات حول واقع ومستقبل الأمن الإنساني والتحديات الكثيرة التي تواجهه، خاصة على ضوء التحولات الكبرى المجتمعية، والعمرانية والديموغرافية والإقتصادية والسياسية الجارية في هذه البلاد منذ عدة عقود، وما أفرزه ذلك من عوامل أثرت على مختلف مناحي حياة المجتمع وتطوره الحضري خاصة في العاصمة والمدن الكبرى.
فهل يمكن اختزال الجريمة في مجرد حادثة سرقة من النوع المألوف؟ أم ستصنف العملية ضمن الجرائم المنظمة التي تقوم بها عادة العصابات وشبكات الإجرام المحترفة؟ هل كانت سرقة مبلغ مالي زهيد نسبيا، هدفا في حد ذاتها؟ أم هي مجرد تغطية على جريمة القتل حرقا من أجل توصيل رسالة ما للمجتمع والدولة في ذات الوقت؟
هل يحتمل أن تكون لهذه الجريمة أبعاد سياسية أو أن تحمل رسالة ما بهذه الخصوص، قد تتصل بموجات تفجر مشاعر التنافر والعداء مؤخرا، وانتعاش خطاب الكراهية والتحريض والتخويف بين الهويات الثقافية المختلفة، المكونة للحمة الإجتماعية الوطنية؟ خاصة بعد انتشار تسجيلات صوتية في الآونة الأخيرة تدعو بشكل صريح للحرق والبطش..
هل كان قتل الضحية ضروريا للقيام بالسرقة؟ وحتى لو كان الجواب بالإثبات، فهل كان القتل حرقا ضروريا حقا لإتمام العملية؟ خاصة إذا كانت العصابة تقدر حجم المخاطرة من خلال التنقل بالضحية بين أحياء متباعدة من حيث كان يعمل إلى المكان الذي وجدت فيه الجثة متفحمة بعد إحراقها بالكامل..
ثم لماذا لم تهتم العصابة بمواراة الجثة أو بإخفائها بعد إحراقها؟ ألم يكن ذلك أكثر منطقية من أجل التغطية على أكبر دليل إدانة في هذه الجريمة البشعة؟ أم أن تركتها في العراء مقصود كنوع من الإستعراض على الطريقة الداعشية المقيتة؟ ألا يحتمل أن تكون العصابة هي من سرب صورة الجثة المتفحمة أصلا؟ طبعا لا يفترض بأن يكون هذا قد حدث من طرف أوساط الأمن ولا القضاء ولا الوسط الطبي، وهي القطاعات المعنية التي أبلغت بوجود الجثة، ويفترض بأنها هي أول من اطلع عليها..
في حالة تأكد فرضية وجود أبعاد سياسية محتملة للجريمة، فإلى من يمكن أن تشير أصابع الإتهام؟ ومن هم أصحاب المصلحة؟ ولماذا تم اختيار هذا التوقيت بالذات؟ وهل صدر القرار بارتكاب الجريمة - إذا ثبتت- من داخل البلاد؟ أم من الخارج؟ أو منهما معا؟
قد يجد كثيرون هذه التساؤلات مبالغا فيها في الوقت الراهن.. لكن، لا أحد قد يتوقع كيف ستكون ردة الفعل لدى الكثيرين أيضا عندما تتوفر معطيات موضوعية يوثق بها، قد تؤكد فرضية وجود أبعاد سياسية محتملة لهذه الجريمة. وعلى هذا الأساس، يكون من الضروري أن تحمل هذه التساؤلات على محمل الجد وإن كانت على سبيل الإفتراض، لكي يبقى للمعالجة العقلانية وللوقاية متسع ومجال للتحرك قبل فوات الأوان..
أما حاليا، فإن المتاح للنقاش بخصوص هذه الجريمة بالنسبة لي، لا يقل أهمية عن فرضية الأبعاد السياسية المحتملة للجريمة، بالنظر إلى أنها ستمثل -بعد دراسة جوانبها المختلفة من طرف المختصين- تطورا نوعيا، ليس فحسب من حيث خصائصها الجُرميَّة، وصعودها الصاروخي على مقياس خطورة الجرائم، وإنما بالنظر إلى ما ستمثله من تداعيات رهيبة على المستوى الديني، والأخلاقي والمجتمعي والثقافي داخل مجتمع بات إلى عهد قريب، مجتمعا بدويا، مسالما، يولي احتراما خاصا لقدسية النفس البشرية التي حرم الله قتلها إلا بالحق، أحرى التجاسر على التمثيل بها.. وحرقها.. وعرضها على قارعة الطريق..
بعد حالة الصدمة الأولى التي أعقبت انتشار خبر الجريمة المروعة، وما أعقبها من موجات إستنكار وشجب في أوساط الرأي العام، بدأ النقاش حول الموضوع ينزاح عن الجوانب الجوهرية نحو نقاش عقيم من نوع من هو المسؤول عن أمن المواطنين؟ ومن المسؤول عن جنوح بعضهم نحو الإجرام؟ هل هو المجتمع؟ أم هو غياب الأدوار المؤسسية للدولة؟ أما في اتجاه آخر، فقد دخل نقاش الموضوع على صفحات التواصل الإجتماعي نفقا يراوح مكانه، بين خصوم تقييم واقع البلاد الحالي في ما يتعلق بتفشي الجريمة وانعدام الأمن الإنساني، بين مؤيد ومنكر. لذا، فقد ارتأيت أن أنبه من خلال هذا المقال إلى أهمية إعادة النقاش إلى نصابه المنهجي والمعرفي، بغية مشاركة الجميع في إثرائه، خاصة وجهات نظر مختلف الحلقات المعنية.. وكذا من أجل مساعدة صناع القرار على تلمس نقاط القوة والضعف بغية تلافيها في الوقت المناسب.
ما حقيقة واقع الجريمة في موريتانيا؟
في الغالب، تضيع الحقائق حول الوصف والتقييم الموضوعيين لواقع الجريمة ومستوى الأمن الإنساني بين منكر أو مقلل من أهمية انتشار الظواهر الجُرميَّة، وبين مبالغ في تضخيمها بشكل لا يخلو من أصداء الخصومات السياسوية في الحياة العامة.. والحقيقة أن انعدام الأمن، خاصة في انواكشوط وفي المدن الكبرى للبلاد، قد أصبح ظاهرة مستوطنة، بل قد يسود الاعتقاد في بعض الأحيان، بأنها ظاهرة منظمة ومدبرة بشكل مسبق. لكن لا أحد يمكن أن يقدم حتى الآن دليلا على ذلك.. لكن، لا أحد أيضا يمكن أن ينكر وجود أزمة حكامة حقيقية تعاني منها الأجهزة الأمنية، وكذا أزمة حادة في منظومة القيم التي يفترض بأنها هي التي توجه رسم السياسات العمومية والإستراتيجيات الأمنية من حيث ترتيب الأولويات وتقييم شفافية التنفيذ والمساءلة.
في مثل هذا الجو من الغموض، وغياب الشفافية في المعلومات، لا مناص من الرجوع إلى الأساليب والمعايير الدولية المتبعة في جميع أرجاء العالم للتحقق من قياس مستوى الجريمة -بما فيها جرائم قتل العمد- في بلادنا. وهناك طريقتان معروفتان للقياس هما حساب معدل الجريمة واستقراء نتائج الاستطلاعات التي يُسأل فيها الناس عما إذا كانوا قد وقعوا ضحايا لجرائم مختلفة، حيث يسمح استقراء النتائج بقياس إحساس الأفراد بالأمان الشخصي وتقييم تجاربهم الشخصية مع الجريمة وإنفاذ القانون في بلدانهم وداخل مجتمعاتهم.
أولا : معدل الجريمة
يتم احتساب معدل الجريمة بطريقة تقسيم العدد الإجمالي للجرائم المصرح بها لدى السلطات الأمنية على العدد الإجمالي للسكان، ثم ضرب الناتج في 100 ألف نسمة، من أجل الوصول إلى عدد الجرائم لكل 100 ألف نسمة من السكان.
ويرتب معدل الجريمة خاصة جريمة القتل العمد، خمسة مستويات متباينة، حسب التصنيف التالي :
- مستوى أقصى الجريمة ويسمى كذلك بالجريمة المتطرفة : عندما يكون عدد القتلى أكبر من 10 لكل مائة ألف من السكان؛
- مستوى الجريمة القوية : عندما يكون عدد القتلى أكبر من 6 لكل مائة ألف من السكان؛
- مستوى الجريمة المتوسطة : عندما يكون عدد القتلى أكبر من 2 لكل مائة ألف من السكان؛
- مستوى الجريمة المنخفضة : عندما يكون عدد القتلى أكبر من 1 لكل مائة ألف من السكان؛
- ومستوى الجريمة المنخفضة للغاية : عندما يكون عدد جرائم القتل أقل من واحد لكل مائة ألف من السكان، كما هو الحال مثلا في بلدان كالدانمرك، والبرتغال، ومالطة، والمملكة المتحدة، وسلوفاكيا، وكرواتيا، وألمانيا، واليونان، وإيطاليا، والجمهورية التشيكية، وبولندا، واللوكسمبورغ، وإسبانيا، وأيرلندا، وهولندا، والنمسا..
لكن المشكلة بالنسبة لموريتانيا في هذا المجال، معقدة جدا. فمن جهة، لا تتوفر للرأي العام ولا للباحثين بيانات دقيقة، موثوقة، كاملة ومحينة صادرة عن المصالح الأمنية المختصة حول الاحصائيات الخاصة بالجرائم. كما لا تقوم المصالح المعنية في الغالب، بتزويد مراكز البحوث والهيئات المختصة في القياس بتلك الإحصاءات إن وجدت، من أجل خدمة توفير المعلومات لقواعد البيانات الدولية المختصة بعالم الجريمة كما هو حاصل في بالنسبة للمعطيات المتعلقة بالإرهاب مثلا..
كذلك، لا تتوفر لدى بلادنا مؤسسات متطورة في مجال الأبحاث المتعلقة بالجريمة، كما لا تتوفر آليات رقمية لمعالجة وتحليل الجريمة في أبعادها المتعددة، أو على الأقل معالجة بعدين هامين جدا هما حجم وشدة الجرائم وليس فقط عددها. حيث يمكن تصحيح معدل الجريمة التقليدي الذي يقيس حصرا حجم الجريمة المرتكبة في وقت أو مكان محدد، من خلال اعتماد مؤسسات الإحصاء لمؤشر خطورة الجرائم لأن معدل الجريمة التقليدي يتأثر بالحجم والشدة.
والحقيقة أن مؤشر قياس خطورة الجرائم المسجلة يسمح أكثر بالقدرة على تأويلها خاصة على المدى المتوسط والطويل، بشكل يمكن المختصين أن يخلصوا مثلا إلى أن الجرائم المسجلة في موريتانيا خلال العقد الأول من القرن الحالي، أقل خطورة من تلك التي سُجّلت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وهو ما يمكن أن يمنح نظرة أكثر اكتمالاً لظاهرة الجريمة وتطورها.. وفهم أبعادها وتداعياتها المختلفة على ديناميكية النسيج المجتمعي والثقافي والقيمي، وكذا قياس فاعلية وتطور البناء المؤسسي للدولة وأجهزتها المختلفة .
انطلاقا من هذا الواقع، فإن المعطيات الجزئية المتوفرة تشير إلى أن معدل الجريمة بالنسبة لموريتانيا مقلق جدا. ويقدر مجموع الجرائم المسجلة برسم سنة 2017 من دون احتساب جرائم القتل، بحوالي 3300 جريمة مختلفة مثل السرقة، والمخدرات، والإغتصاب، إلخ. فلو افترضنا بأن مجموع جرائم القتل العمد هو صفر بالنسبة لنفس السنة، وطبقنا طريقة احتساب معدل الجريمة، فسنجد نسبة 82.5 ، وهو رقم أسطوري مخيف بكل المقاييس.
أما إذا اعتمدنا على البيانات الدولية المتخصصة في مجال القتل العمد، فنجد بأن موقع (homicide monitor) ، يمنح موريتانيا برسم سنة 2015، معدل جريمة 10.2 باحتساب 416 جريمة قتل لنفس السنة. وهو ما يجعلها تتفوق على بلدان مثل نيجيريا وآنغولا في إفريقيا، وبيرو والأروغواي في أمريكا الجنوبية. وسبق لنفس هذا المؤشر بأن صنف موريتانيا سنة 2012، في المركز رقم 105 عالميًا، بمعدل جريمة بلغ 5 قتلى لكل 100 ألف نسمة، وبعدد جرائم قتل إجمالي بلغ 191 حالة.
ثانيا : استقراء نتائج الاستطلاعات
يشكل استقراء نتائج استطلاعات الرأي العام طريقة أخرى لمعرفة وقياس مستوى الجريمة ومدى إحساس الأفراد داخل بلد معين بالأمان الشخصي، وكذلك تقييم تجاربهم الشخصية مع الجريمة، ومدى رضاهم بإنفاذ القانون في دولهم من أجل التصدي للجريمة ومكافحتها والعمل على الحد من أسبابها ومعالجة تداعياتها المختلفة النفسية، والمجتمعية والأخلاقية، وتأثيراتها السلبية على الأفراد والمجتمعات والدول.
وسنتطرق إلى مقاربة الحالة الموريتانية من خلال نتائج مؤشر مؤسسة غالوب Gallup الأمريكية لقياس إحساس الأفراد بالأمان الشخصي، وتقييم تجاربهم الشخصية مع الجريمة وإنفاذ القانون في بلدانهم. وقد عرض التقرير العالمي لهذه المؤسسة الصادر سنة 2018 نتائج استطلاعات الرأي التي قام بها من خلال تحليل إجابات الأشخاص على هذه الأسئلة استنادًا إلى أكثر من 148 ألف مقابلة مع أشخاص بالغين في 142 بلدًا ومنطقة خلال سنة 2017.
وقد طرحت إستمارة الإستطلاع الأسئلة الأربعة التالية :
- في المدينة أو المنطقة التي تعيش فيها، هل لديك ثقة في قوة الشرطة المحلية؟
- هل تشعر بالأمان وأنت تسير لوحدك أثناء الليل في المدينة أو المنطقة التي تعيش فيها؟
- ﺧﻼل اﻷﺷﻬﺮ اﻻﺛﻨﻲ ﻋﺸﺮ اﻟﻤﺎﺿﻴﺔ، هل كانت ﻟﺪﻳﻚ أﻣﻮال أو ﻣﻤﺘﻠﻜﺎت ﺳُﺮﻗﺖ ﻣﻨﻚ أو ﻣﻦ أحد من أفراد ﻋﺎﺋﻠتك؟
- ﺧﻼل اﻟـ 12 ﺷﻬﺮًا اﻟﻤﺎﺿﻴﺔ، هل ﺗﻌﺮﺿﺖ للإعتداء أو جرى الهجوم عليك؟
لقد قامت مؤسسة جالوب بجمع الإجابات "الإيجابية" على هذه الأسئلة الأربعة، ورتبت فهرسا لتصنيف البلدان، حيث كلما زادت الدرجة، كلما ارتفعت نسبة السكان الذين يشعرون بالأمان. وكانت درجة المؤشر للعالم في عام 2017 هي 81 من أصل 100 نقطة محتملة. لكن 86 بلداً من أصل 142 قد سجلوا درجات أقل من هذا المتوسط.
ورغم أن أغلبية الأفراد أي 69 في المائة قد أعربوا عن ثقتهم في الشرطة المحلية، وصرحوا بأنهم يشعرون بالأمان حين يمشون وحدهم في الليل حيث يعيشون، إلا أن نسبة 13 في المائة، أي واحد من كل ثمانية أفراد قد صرحوا بأنهم كانوا يمتلكون أموالا وأنهم تعرضوا للاعتداء أو السرقة.
وقد تراوحت النتائج في جميع أنحاء العالم من أعلاها وهو 97 نقطة في سنغافورة إلى أخفض مستوى بلغ 44 في فنزويلا. أما موريتانيا، فقد تم تصنيفها ضمن هذا المؤشر، في مرتبة 63 نقطة، عند بوابة آخر مجموعة تتألف من 16 دولة جاءت في ذيل الترتيب تضم بعد موريتانيا، بلدانا إفريقية مثل زامبيا، وأوغندا، وجنوب إفريقيا، وليبيريا، وجنوب السودان الذي يأتي في المرتبة قبل الأخيرة. كما تضم المجموعة كذلك أفغانستان، إضافة إلى دول من أمريكا الجنوبية مثل بوليفيا، والبيرو والبرازيل، التي احتلت مع موريتانيا نفس الدرجة في تصنيف مؤسسة جالوب لقياس إحساس الأفراد بالأمان الشخصي وتقييم تجاربهم الشخصية مع الجريمة وإنفاذ القانون في بلدانهم. أما المؤسف حقا فهو تعادل موريتانيا مع البرازيل التي تصنف في مرتبة متطرفة لدى مؤشر homicide monitor، حيث تحتل معدل جريمة يقدر بـ 30.3، وبعدد إجمالي يتجاوز 62 ألف حالة قتل.
رُهابُ الهلوكوست
لا أحد يحلم بأن تصبح موريتانيا في المستقبل المنظور، واسطة عقد الدول العشر في العالم الأكثر أماناً للعيش، والتي من بينها دولة لم تسجل فيها جريمة واحدة منذ 8 سنوات هي آيسلاندا. لكن.. لا أحد يرغب في أن تستحيل عاصمة البلاد إلى حقل تجارب للجريمة المنظمة، تسيطر عليها العصابات والمافيات وقوى الشر التي قد تتستر وراءها، وتدفع مجتمعا آمنا إلى أتون الفتنة والمحرقة.
لذا، لا بد للموريتانيين من أن يستشعروا - في هذه المرحلة الحساسة من مسار تطور مجتمعهم وبناء دولتهم الحديثة- خطورة ما قد يؤدي إليه تردي الأمن الإنساني وانتشار وتطور الجريمة، بكل أنواعها، خاصة جرائم القتل العمد، بالشكل الجديد، الذي دشنته هذه الجريمة المرعبة التي راح ضحيتها -بكل أسف- ذلك الشاب المغدور محمدو ولد بَرُّو، حيث مازال أهله وعائلته وذووه تحت الصدمة الرهيبة للحادث.. نسأل الله تبارك وتعالى لهم اللطف في المقادير.. وأن يمن عليهم بالصبر والسلوان في مصيبتهم.. وحسبنا الله ونعم الوكيل..
أعتقد بأن جريمة اختطاف وقتل وحرق الشاب محمدو ولد بَرُّو، ستشكل في جميع الحالات - ومهما تكن أبعادها وخلفياتها- منعطفا خطيرا يتطلب وقفة تأمل وتفكير وإصلاح، يتجاوز لحظات الشعور بالألم والحزن والذهول والحيرة، نحو مسائلة جادة للمجتمع والدولة كليهما عن "ما العمل؟" أمام عولمة الظواهر المعاصرة، التي ثَوَّرَت مفهوم الأمن، بحيث لم يعد جامدا ولا مسطحا. ولم يبق الأمن منحصرا فحسب في مفهومه التقليدي، أي الدفاع عن الحوزة الترابية وحماية السلطة ورموز سيادة الدولة ، على حساب أمن المواطنين أو الأفراد، لا بل أصبح مفهوم "الأمن البشري" يضع أمن الإنسان من حيث هو مواطن في الدولة الحديثة، في قلب إشكالية الأمن المندمج.
وكم نحن بحاجة ماسة في بلادنا، إلى إعادة التفكير في أمننا انطلاقا من هذا المنظور ذي البعد المندمج، الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والديني، أي "الأمن البشري"، من أجل وضع حقوق المواطنين، أي حقوق الرجال والنساء والأطفال والشرائح الهشة، في قلب إشكالية الأمن.
يقول المفكر الإقتصادي "سامييل بيزار"، وهو أحد الأطفال الناجين من محرقة اليهود في بولندا، بأنه بعد أن عاش تلك المأساة وهو ابن 13 سنة وفقد كل أفراد أسرته، "لم يعد ينام إلا بعين واحدة"، ثم يستطرد قائلا "أما وقد كتب لي عمر جديد، فإنني أشعر بالإلتزام الخلقي لنقل بعض الحقائق التي تعلمتها خلال معايشتي للفظاعات في قاع الوضع البشري، ثم بعد ذلك، في بعض من قممه الشاهقة.. فلا أحد يستطيع أن يعيش ما عشته بدون أن يشعر بحاجة حقيقية لتنبيه الأجيال الجديدة إلى الأخطار التي يمكن أن تدمر عالمهم، كما دمرت عالمي ذات مرة".