قراءة في المشهد السياسي منذ التنصيب وحتى إعلان الحكومة | صحيفة السفير

قراءة في المشهد السياسي منذ التنصيب وحتى إعلان الحكومة

سبت, 17/08/2019 - 18:35
د.محمد عبد الله محمد محمود

سنحاول في هذه القراءة الأولية للمشهد السياسي، أن نقرب صورته التي لا تزال أمشاجا ونحاول تكبيرها، حتى يستوي في مشاهدتها الأعشى والأجهر وحديد البصر وحسيره، وذلك من خلال الوقوف على دور أبرز الركائز التي يقوم عليها المشهد السياسي عادة، وتؤثر فيه وتتأثر به، حيث سنبين دور مافيا المال العام ووسائلها المختلفة من: إعلام وكتاب مأجورين وإداريين...لنخلص إلى دور النخب، ووسائل الإعلام العمومية والخصوصية، مرورا بدور المعارضة وانتهاء بدور رئيس الجمهورية ووزيره الأول وحكومته.

انفراج في الأزمة التي كانت تعيشها البلاد.

إن المتابع للمشهد السياسي الموريتاني يلاحظ بدون عناء، أن الموريتانيين جميعا يتطلعون بتلهف يحدوه الأمل إلى غد مشرق، وذلك منذ انتهاء مراسم تنصيب رئيس الجمهورية، سواء في ذلك المواطن العادي البسيط، والسياسي المخضرم الذي حلب الدهر أشطره، بل إن هذا الأمل عبر عنه جل المواطنين، منذ تم تداول اسم الرئيس كمترشح محتمل ضمن المترشحين للرئاسيات، والتي كانت حينها حديث العامة والخاصة، وهو أمل له ما يبرره نظرا إلى ما يتحلى به الرجل من خصال حميدة، لعل أبرزها الحلم والأناة، والزهد في الشهرة وحب المال، وكتمان الأمور، وخبرة بمشاكل الوطن تناهزن نصف قرن، تكاد أن تكون واكبت ميلاد هذا القطر، المأزوم المنكوب من نشـأته، تلك الصفات جعلت الجميع يرى أن البلاد اليوم على موعد من التاريخ مشرق، نرى أنه سيؤسس للدولة بمفهومها العصري، انطلاقا من خصوصية المجتمع الموريتاني المنبثقة من عقيدته الإسلامية السمحاء البيضاء...، فالرئيس أحسبه ــــ ولا أزكي على الله أحدا ــــ صادقا فيما أعلنه غير ما مرة، وبالأخص في خطابي الترشح والتنصيب، من أنه لم يترشح من أجل الحصول على امتيازات السلطة وأبهتها، وإنما ترشح من أجل خدمة الوطن بما يملكه من خبرة ومعارف وتربية، بيد أن صدق نيته ونبل غايته وما يملكه من خبرات ومعارف كل ذلك لا يكفي، ما لم تتآزر معه خبرات ومعارف الخيرين من أبناء الوطن، الذين يتقاسمون معه الإيمان بضرورة التأسيس لمرحلة جديدة للتعاطي مع الشأن العام، تشكل قطيعة تامة مع ما كان سائدا منذ نشأة مشروع الدولة الموريتانية منتصف القرن المنصرم، ويتأكد هذا التآزر في المراحل الأولى من عملية التأسيس المنشودة، وبالأخص في المرحلة الأولى من هذه المراحل، والتي بدأت بالفعل من يوم التنصيب وخطت خطوتها الأولى من خطوات الألف ميل بتشكيل الحكومة، هذه التشكيلة التي بدأت بالخروج على ما كان سائدا، من محاصصة عرقية وقبلية وجهوية وزبونية ومحسوبية...بغيضة.

دور مافيا "Maffia" المال العام في المشهد السياسي.

إن المعيار الذي تم اعتماده في تشكيلة الحكومة الأولى من مأمورية الرئيس، جعلها تستهدف بوقاحة وجرأة قل نظيرها، من المواقع الإلكترونية الرديئة (الحمراء) التي تقص وتلصق وتختلق الشائعات...والآراء المؤدلجة ذات الولاءات العابرة للقارات، والأقلام المأجورة التي تكتب حسب الطلب، مقابل ثمن مدفوع مسبقا...هذه الزواحف القارصة التي تنمو نمو الفطريات في الفضاء الافتراض الوطني، بعدما عملت عملها لتمزيق النسيج الاجتماعي، وتشويه عقيدة المجتمع السمحة وقيمه الفاضلة، ومحاسن عاداته...هاهي اليوم تستنفر حمرها العور المدبورة المحدودبة، وجحاشها وبراذينها وأفاعيها وذئابها وثعالبها وجعلانها وبقَها...فجاؤوا بقضهم وقضيضهم، لوءد تطلعات وأحلام المواطنين المشروعة، مما يستدعي من الجميع اليقظة والوقوف صفا واحدا، لإفشال مخططاتها بل ومحاصرتها وعزلها والقضاء عليها في مهدها، حتى لا تكون فتنة أو فساد في الأرض، وقد أشعلت نيرانها وسكبت زيتها على عليها، محرضة ومعرضة بالرئيس المنتخب وحكومة وزيره الأول، مشككين في صدق نواياه وطيب سجاياه، منذرين ومحذرين منه، بأنه امتداد لسلفه وشريكه في صلفه، رغم أنهم لم يأتوا بما يبرر بعض ما قاموا به من قصفه، مستخدمين مخزونهم الهائل من القدح في معرض المدح والعكس، حتى جاوزوا المتنبي قي مذهبه المعروف وكأنه يعنيهم بقوله:

أريك الرضا لو أخفت النفس خافيا *** وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا

أمينا وإخلافا وغدرا وخسة *** وجبنا أشخصا لحت لي أم مخازيا

تظن ابتساماتي رجاء وغبطة *** وما أنا إلا ضاحك من رجائيا

وتعجبني رجلاك في النعل إنني *** رأيتك ذا نعل إذا كنت حافيا

ولولا فضول الناس جئتك مادحا *** بما كنت في سري به لك هاجيا

فأصبحت مسرورا بما أنا منشد *** وإن كان بالإنشاد هجوك غاليا

فإن كنت لا خيرا أفدت فإنني *** أفدت بلحظي مشفريك الملاهيا

ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة *** ليضحك ربات الحداد البواكيا

ولا غرو فمن سنن الله عز وجل الكونية، سنة التدافع بين الخير والشر والإصلاح والإفساد ودعاة الحق ودعاة الباطل... { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ }الرعد: 17 .

فهاهم أزلام وأبواق...بارونات المال والفساد وسدنتهما، ينفخون في غير ضرم ويستسمنون كل ذي ورم بعدما أحسوا بالخطر، عندما تم أول مرة تداول اسم الأخ الرئيس محمد بن الشيخ محمد أحمد الغزواني كمرتشح للرئاسة، فأقاموا الدنيا حينها ولم يقعدوها حتى الآن، وحاكوا ما حاكوا من المغامرات، لحمل الرئيس المنصرف على أن يكون نيرون، وبعد أن عجزوا وفشلوا في مغامراتهم بفضل الله، ثم بحكمة الرئيس جنحوا للسلم صاغرين موتورين...على أمل أن ينالوا في عهده نصيبا، مما اعتادوا على الاستئثار به من ريع الدولة، وبما أن الرئيس ووزيره الأول، لم يستشيروهم فيما يعدان له، أعادوا الكرة الخاسرة هذه المرة، بالإشاعات المغرضة والتصرفات المغاضبة، وما إن أعلن عن التشكيلة الحكومية، حتى طفقوا يهاجمونها ويصفونها بكل النعوت والأوصاف السلبية والمنفرة...واعتبروها إقصاءا وتهميشا وزلزلة لعروشهم وبروجهم العاجية، بل ذهبوا أبعد من ذلك بأن لوحوا بعدم منحها الثقة، بل وحجبها عنها إذا هي لم تقم بواجبها، كلمة حق أريد بها باطل...وللتأكيد على نيتهم تلك قاطعوا أول نشاط لرئيس الجمهورية، رغم رمزيته ودلالته عند جميع مكونات الشعب، إذن هناك غيوم كثيفة مظلمة لثورة مضادة، لتوجهات رئيس الجمهورية وتعهداته التي منحه الشعب الثقة بموجبها، مع أني على يقين بأن مافيا الأنظمة البائدة أكلة المال العام... إذا قامت بعرقلة منح الثقة للحكومة أو حجبها عنها، فإنها تكون قد انتحرت سياسيا، بإسقاطها ورقة التوت التي كانت تواري بها سوءاتها، وبذلك تكون عجلت بالخلاص منها وإلى الأبد، مما سيعجل بتسارع وثيرة الإصلاح في البلاد، من خلال تجديد الطبقة السياسية بشكل جذري، { فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} النساء الآية:(19)...قد يقول قائل إنها غيوم بالفعل بدأت تتلبد بكثافة لكنها جهام، وسحابة صيف عما قليل تقشع، ورغم وجاهة ذلك أري أنه ينبغي أن يزاح عجاجها، ولا تترك له الفرصة ليكدر الرؤية أحرى أن يحجبها، فمعظم النار من مستصغر الشرر.

موقف النخب مما يجري.

يعد من نافلة القول بأن المشهد السياسي يقوم على ركائز من أبرزها النخب من: أكادميين ومثقفين وكتاب ومدونين وناشطين جمعويين...وبالتالي فإن محورية دورهم في التأثير في المشهد السياسي وتأثرهم به من المسلمات، كل واحد من موقعه وحسب تخصصه، فهم من صناع المشهد السياسي والقائمين عليه، كما أنهم يعتبرون رأس الحربة والمجن والترس والسهم والمخذم وطير أبابيل...في مواجهة كل من تسول له نفسه النيل من الوطن، ويكفيهم دورهم المشهود في خلق الوعي بين المواطنين وتكوين الرأي العام الذي يخدم المجتمع، ويحصنه من كل ما من شأنه أن يلحق به الضرر، ورغم محورية هذه النخب فإن جلها إن لم يكن كلها تغط في سبات عميق، قد يكون مرد ذلك لكونها تنقسم إلى فسطاطين، أحدهما مؤدلج يسير فلكه المشحون، والآخر مدجن منزوع السم والدسم، ينتظر انجلاء غبار المعركة ليلتحق بالمنتصر، وكأن الجميع لا ناقة لهم ولا جمل فيما يجري، فهم يعتبرون أنفسهم إذا دخلوا المعمعة كالحادي ولا بعير له...ولسان حالهم ينشد: لا تَلْقَ دَهْرَكَ إلاّ غَيرَ مُكتَرِثٍ....ما دامَ يَصْحَبُ فيهِ رُوحَكَ البَدنُ.

وسائل الإعلام العمومية والخصوصية الحاضر الغائب.

إن دور وسائل الإعلام في المشهد السياسي محوري على اختلاف أنواعها: العمومية والخصوصية المرئية والمسموعة والمقروءة...فهي ركيزة من ركائزه الأساسية، وفضلا عن ذلك دورها مركزي في نهضة الأمم وتقدمها، مما يستدعي قيام الجميع بوظائفهم بكل مهنية وحياد وتجرد...فالخبر والتحليل ووجهة النظر...لا يجوز الخلط بينهم...كما يجب الابتعاد عن التضخيم والتهويل أحرى التزمير والتطبيل والتصفيق والاختلاق...تلك أمور من بين أخرى لا تخدم وسيلة الإعلام، أحرى أن تخدم الرئيس والوطن والمواطن...أعتقد جازما أننا خلال مأمورية رئيس الجمهورية، سنرى نهاية لتلك الممارسات المستهجنة البغيضة...فعلى من طبعوا عليها حتى صارت لهم سجية، أن يغيروا ما بأنفسهم، قبل أن يصبحوا من الماضي البغيض...إن الأخ رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ محمد أحمد، لا يحب الصخب ولا الضجيج ولا الجعجعة بلا طحين...بل يريد الطحين بلا جعجعة...فالرجل يستوي عنده المادح والقادح...بدون مبالغة، هذا خلقه الجبلي الذي نعرفه به...فمن يريد الحظوة والقرب منه فعليه بالأفعال الملموسة، وليجتنب الأقوال ولو مهموسه....وإن تعجب فعجب من وسائل الإعلام العموية، التي لا تزال منغمسة في تمجيد العشرية الماضية، والتي يعتبر الصمت عنها أفضل خدمة تقدم لها، في حين تترك الحاضر والمستقبل، لوسائل إعلام مافيا المال العام، وقد كشرت عن أنيابها، وسنت مخالبها وأطلت بقرونها كأنها رؤوس الشياطين...!!! بل إنها ذهبت أبعد من ذلك بتبريرها لأخطائها المعهودة بعنترياتها التي ما قتلت ذبابا، فلا غرو إن كانت اليوم معول هدم في يد مافيا المال العام كما تعودت منذ عقود، وكل امرئ يجري على ما تعودا.

المعارضة الخائرة القوى المتفرقة الأهواء.

تعتبر المعارضة من الفاعلين الأساسيين في المشهد السياسي في أي بلد، بيد أن المعارضة في بلادنا في هذه الظرفية الحاسمة، تكتفي مما يجري بموقف المتفرج ولسان حالها يقول: { وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّى بَعْضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضًۢا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (الأنعام - 129) فهي في الحقيقة ما زالت كما كانت، {...كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} سورة الروم (32) بل إنها اليوم في بداية مرحلة إنشاء وهدم وترميم...لم يسبق لها أن مرت بها منذ نشأتها، فلا نبالغ إذا قلنا أن أقطاب الرحى فيها عما قريب ستتلاشى، فقد بلغوا من الكبر عتيا، ولم يعودوا قادرين بل ولا حتى راغبين في المسير في قطار، هم على يقين من أنه لم ولن يوصلهم إلى المحطة التي يسعون إلى الوصول إليها لأسباب مختلفة، من أبرزها كون القوى البدنية والذهنية أصبحت خائرة، شأنها في ذلك شأن البنى القانونية والقاعدية، إذ لم تعد مساعدة بل ولا قادرة ولا حتى راغبة تسير سير السلحفاة، في عصر الثورة الرقمية والقرية الكونية الواحدة، فالقطار الصيني شانغهاي ماجليف (Shanghai Maglev)، يسير بسرعة يصل مداها إلى حوالي الـ 431 كيلومتر في الساعة، وينتظر أن يعلن غدا أو بعده عن عما هو أسرع منه، مما يجعل السفر في القطارات المستخدمة الآن مضيعة للوقت، يضاف إلى ما تقدم تآكل شرعية تلك الرموز والخلافات التي تعصف بها، والهجرات الحثيثة الكثيفة إلى حيث ألقت رحلها أم دفر، بعد أن عاشوا عقودا معيشة ضنكا، ومن على العدوة القصوى من الحفاة العراة يتطاولون في البنيان، وأعتقد أن المشهد السياسي والذي نرى الآن بذرته الأولى تلقى في حقلها، سيشهد غياب المعارضة الراديكالية التي هيمنت عليه طيلة العقود الثلاث الماضية.

ومهما يكن من أمر فإن المعارضة الآن كل طيف من أطيافها على حدة، يقتصر دوره في المشهد السياسي على تمرير رسائل للرئيس، تحمل هموم ومصالح قطبه الشخصية، وفي أحسن الأحوال العرقية والإيديولوجية...فالجميع يريد التخلص من الآصار والأثقال التي تثقل كاهله منذ العشرية المنصرمة بل وما قبلها، ويودون أن يكون ذلك بجرة قلم، فمنذ التنصيب أي أقل من أسبوعين، تكرر التذمر بل وإعلان خيبة الأمل من الرئيس لعدم قيامه بما يتوقعونه منه!!! ويتجاهلون دورهم في خلق تلك الآصار والأثقال، وأن بعضها لا يمكن التخلص من تبعاته إلا من قبلهم هم أنفسهم، وأن الرئيس حتى وإن كان يرغب في تلبية رغباتهم، فإن هناك مراحل لا بد وأن يمر بها القرار أي قرار، وأن الوضع الداخلي والأقليمي والقاري والدولي كل ذلك، لا بد من أخذه في الحسبان عند اتخاذ قرار، قد يكون له ارتباط بالعوامل الآنفة الذكر أو أحدها، هذا من الأمور البدهية التي يعرفها كل من له أدنى إلمام بالمراحل التي يمر بها القرار قبل اتخاذه.

يتبع...1ــــ2