قد تكون القراءة الجغرافية أدقَّ كل التحليلات. لقد قدر لموريتانيا أن تكن جارة (بحرية) لأمريكا أكبر إمبراطورية في التاريخ البشري.
وفي هذا الجوار البحري أكثر من عجبٍ، ولكن المؤكد أنَّ حول البحرِ عجبينِ، يمكن أن يكون كذلكَ وأكثرَ: أمريكا بكل حمولتها المادية والعلمية والاقتصادية، وموريتانيا بكل حمولتها الحضارية والاستراتيجية..
أمن أمريكا وسواحلها الشرقية لا يمكنُ تحقيقهُ استراتيجيا من دون "العمق الموريتاني."
كثيرون لم يروا إشارة لذلك في الحدث التالي.
كانت أمريكا أول دولة في العالم تعترف باستقلال موريتانيا. الدولة الوليدة المنبثقة من الرمال وقتها.. لكن من رمال شواطئ الأطلسي الممتدة 800 كيلومتر، بجزرها وثروتها المعدنية والمتجددة.
زامنت أمريكا اعترافها بموريتانيا مع تعيين أول سفير للولايات المتحدة الأمريكية في موريتانيا يوم 28 نوفمبر 1960.. وسيظهر أن ذلك السفير "هنري فيلارد" شخصية كبيرة وبالغة الأهمية في السياسة الأمريكية، ما معناه أنّ واشنطن ترى في الكيان الوليد تحت خيمة أكثر من مستقبل ومصلحة؟ جار جديد لأمريكا ليس شيئًا سهلا.
وكان الحدثان أيضا يعنيان اهتمام أمريكي قديم وإعجاب بالرئيس المختار ولد محمدن ولد داداه، وهذا مدون في أرشيف البيت الأبيض، والخارجية الأمريكية، ليس أقله ما سيظهر لاحقا، وهو حصافة الرئيس المؤسس المختار ولد محمدن ولد داداه الذي بادر بإجراء اتصالات هاتفية برئيسي أمريكا والاتحاد السوفياتي ضمن الوساطات الدولية لتجنب حرب نووية في أزمة "صواريخ كوبا". كانت عبارات قليلة ومختصرة لها تأثير كبير حين قال لكل من الزعيمين اخروتشوف وكنيدي "هذه ليست مسألة شخصية. أنتما مسؤولان عن بقاء البشر على هذا الكوكب".
صحيح أن العلاقات الموريتانية الأمريكية مرت بمراحل إيجابية وسلبية في بعض الأحيان، فقد أقدمت موريتانيا على قطعِ علاقتها بأمريكا سنة 1967 ردا على التدخل الأمريكي القوي المؤيد لإسرائيل في عدوان 1967 على مصر.
بعد هذا القرار التاريخي، بدأت أمريكا تولي اهتماما خاصا لموريتانيا من الناحية الإستراتيجية، فبعد عودة العلاقات عام 1970، أرسلت أمريكا سنة 1971 أحد أهم سفرائها التاريخيين هو السفير الشهير ريتشارد ميرفي والذي سيصبح نائب وزير الخارجية لاحقا وأحد أشهر منظري السياسة الخارجية الأمريكية.
ومع ذلك، كانت العلاقات الأمريكية الموريتانية على موعد آخر مع التدهور إثر الأزمة العرقية مع الجارة الشقيقة السنغال سنة 1989، وسيصل الخلاف ذروته مع دعم موريتانيا للعراق ضد التحالف الذي قادته أمريكا في حرب "الخليج الأولى" ضد نظام صدام حسين.
ومن دون شك، لمن يعرف السياسة الخارجية الأمريكية يعرف أن المعيار الأول هو "المصالح المشتركة" مع أي طرف، ولقد ظلت موريتانيا ضمن معطيات محلية وإقليمية لا تشاطر أمريكا وجهة نظرها إن لم يكن العكس.
غير أنّ منحى علاقات البلدين سيشهد تغيرا بالغ الأهمية مع منتصف التسعينات من القرن الماضي، مع تطورات الأمور في المنطقة، فقد اقتنعت أمريكا من جديد بضرورة تحسين العلاقات مع موريتانيا، ولهذا الغرض عينت السيدة دورثي سامباس سفيرة لواشنطن في نواكشوط.
وقد كان لهذه السيدة دور مركزي في تحسين العلاقات وتفعيلها على مستوى قطاعات عديدة في البلدين، وكان من إنجازاتها بدء إعادة المساعدات الأمريكية لموريتانيا والخطوة الرمزية بافتتاحِ "المدرسة الأمريكية في نواكشوط".
ولدى انتهاء مأمورية السفيرة سامباس، أرسلت أمريكا إلى موريتانيا سفراء أذكياء من عروبيو الخارجية الأمريكية مثل معالي السفير جوزيف لبارون، والذي وصلت في عهده العلاقات بين البلدين إلى القمة، وأصبحت موريتانيا في تلك الفترة "حلقة انطلاق الإستراتيجية الأمريكية" المبنية على تعاون وعلاقة وطيدة ضمن "رؤية الشريط الحيوي" (نواكشوط – مقديشو).
ومن غير الخافي أن قرار واشنطن باختيار العاصمة الموريتانية نواكشوط لتكون موقع أكبر مبنى سفارة أمريكية في القارة الإفريقية لم يأت اعتباطا. إنه يعني من ضمن مؤشراتهِ التعويل على "علاقة متكاملة مع حليف بالغ الأهمية".
ورغم الموقف الأمريكي (المبدئي) من انقلاب 6 أغسطس 2008، والذي أدى لتراجع العلاقات على مستوى المساعدات، فقد اتخذت واشنطن قرارا بالتفريق بين "دوافع سياسية" وأخرى "وطنية" لدى قادة الانقلاب. وهكذا رفضت وزارة الخارجية الأمريكية وضع اسم قائد الجيش الموريتاني وقتها الفريق ركن محمد ولد الشيخ الغزواني ضمن قائمة العقوبات على منفذي الانقلاب، مبررة ذلك بأن دور الرجل في أمن منطقة الساحل ومحاربة الإرهاب يجعله فوق دائرة الاتهام بالسعي لمكسب سياسي شخصي.
لقد كانت أمريكا بدرجة من الوعي الأمني بحجم التحدي في منطقة الساحل جعلها ترفض مضايقة الرجل الذي يمثل عبقرية عسكرية وأمنية بين كبار قادة أركان الجيوش في المنطقة، سوف يصدق التوقع الأمريكي حين تمكن ولد الشيخ الغزواني من قيادة الحرب على القاعدة من شوارع نواكشوط إلى خارج حدود البلاد بـ 300 كلم. ليس هذا فحسب، لقد نجح الجيش الموريتاني تحت قيادته في أن يصبح أول جيش في المنطقة يطهر بلاده من الإرهاب ويعلن الحوزة الترابية خالية من أي وجود للمسلحين السلفيين، والذين هم موجودون في شوارع كبريات مدن أمريكا وقاموا بعمليات إرهابية حتى داخل القواعد الأمريكية.
تجرأ قائد الجيش الموريتاني الفريق ركن محمد ولد الشيخ الغزواني على مواكبة العمل العسكري الميداني بعملية إعادة تكوين وتدريب وتسليح الجيش جنبا إلى جنب مع اقتحام "المعقل المركزي" أي الحرب الفكرية على الإرهاب، والتي أعطت نتائج جد باهرة.
وهكذا، فإن العلاقات الأمريكية الموريتانية كانت على موعد مع "نقلة نوعية" مع انتخاب محمد ولد الشيخ الغزواني رئيسا للجمهورية.
لقد بادرت أمريكا "ذات البريد السريع" من جديد بإرسال الرسائل الإيجابية إلى الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وإلى موريتانيا، وإلى الموريتانيين.
• الرسالة الأولى حملت البيان شديد الإيجابية بموقف أمريكا المهنئ والمرحب بانتخاب محمد ولد الشيخ الغزواني رئيسا لموريتانيا.
• لم يكن صدفة أنَّ كبريات وسائل الإعلام الأمريكية من قنوات وصحف ووكالات نشرت مقالا تعريفيا عن المرشح ولد الشيخ الغزواني، في حين تجاهلت المرشحين الآخرين، اللهم إلا في إذاعة النسب التي حصلوا عليها.
حمل انتخاب ولد الشيخ الغزواني مفتاح مبادرات أمريكية إيجابية منذ تسلمه للسلطة، هذه بعض عناوينها:
• زيارة نائب وزير الخارجية المكلف بالسياسة العامة السيد دافيد هيل، وكذلك نائب وزير الخارجية المكلف بالشؤون العسكرية السيد كلارك كووبر، إلى نواكشوط وتصريحاتهم الصريحة حول الثقة الأمريكية في الدور الموريتاني بالمنطقة.
• اختيار أمريكا الأراضي الموريتانية لتكون مقرا لإجراء "تمرين فينتلوك " العسكري (العالمي)، الذي تشارك فيه قوات أزيد من ثلاثين دولة بآلاف العسكريين، ويتم فيه اختبار أحدث تقنيات العلوم العسكرية الميدانية من تدريب واتصالات وتمرينات ومناورات، واختبارات لجاهزية قوات النخبة من الجيوش المشاركة.
لنعترف أن هذه أول مرة يخرج فيها قادة عسكريون يشغلون مناصب حساسة في جيوشهم ويصرحون بارتياحهم للعمل التشاركي مع الجيش الموريتاني.
• تلت هذه الخطوة، زيارة أكبر وأهم وفد من الكونجرس الأمريكي في تاريخ العلاقات الموريتانية الأمريكية بقيادة رئيس مجلس الدفاع في مجلس الشيوخ الأمريكي السيناتور الجمهوري جيم انووهوف وعضوية ستة أعضاء من الكونجرس الأمريكي (أربعة أعضاء من مجلس الشيوخ ونائبين).
لقد كانت تصريحات الوفد الأمريكي الأول من نوعه واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، ومختصرها: "نثق ونقدر الرئيس الموريتاني الجديد وسنعمل معه على تحقيق المصالح المشتركة للبلدين".
• وهكذا، أيضا، جاء تقرير مكتب محاربة الإرهاب في الخارجية الأمريكية بقيادة نائب وزير الخارجية المكلف بمحاربة الإرهاب السيد ناتان ألكسندر سيلس، يوم 19 يونيو 2020 (الشهر الماضي)، والذي أثنى على موريتانيا بقيادة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني واعتبرها بمثابة "حليف حقيقي وفعال لأمريكا في منطقة الساحل خصوصا وإفريقيا عموما".
ولم يخفي التقرير تركيزه على الإنجازات التي حققها الجيش الموريتاني، وطالب التقرير، وبصراحة، بدعم "البيت الأبيض" و"الكونغرس" لموريتانيا عسكريا في هذه المرحلة المهمة من تاريخ موريتانيا.
• تقرير "مكتب المتاجرة بالبشر" في الخارجية الأمريكية بقيادة السفير جان كاتن ريشموند، (يوم 25 يونيو 2020).
وقد قام التقرير بإخراج موريتانيا من "المنطقة الحمراء" إلى "المنطقة الوردية"، وثمن التقرير الجهود المبذولة من طرف فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني بإنشاء وكالة "تآزر" بميزانية سنوية تقارب 108 ملايين دولار أمريكي، وهو رقم ضخم بمعطيات اقتصاد البلاد، والجهود الجبارة التي حققتها موريتانيا رئيسا وشعبا في هذه المرحلة المهمة من تاريخ موريتانيا.
جدير بالذكر، أنَّ "المنطقة الوردية" تعني أن موريتانيا أصبحت في مجموعة من الدول الحليفة لأمريكيا مثل: إيرلندا، ماليزيا، المملكة العربية السعودية، السنغال، نيجيريا، رومانيا، الأردن، أرمينيا... إلخ. وهذا التصنيف يؤهل موريتانيا للحصول على كثير من الامتيازات والدعم العسكري والاقتصادي والاجتماعي من أمريكا.
خلاصة "بريد أمريكا السريع" ورسائله غير المشفرة أنها تحمل "تزكية واضحة" أرسلتها الإدارة الأمريكية الحالية إلى موريتانيا رئيسا وشعبا.
وتأتي هذه الرسائل في توقيت عالمي حساس وظرفية دقيقة غير قابلة للانشغال برفاهية الأمور الثانوية.
إن المحافظة على هذه التزكية يكون باستثمار "سياساتنا وخياراتنا الراهنة" المتمثلة في استرجاع الدولة لمنظومة قيمنا الأخلاقية، وبناء دولة القانون والحكامة الرشيدة، واحترام حقوق الإنسان ومحاربة مخلفات الرق والغبن والتهميش الاجتماعي، ومواصلة محاربة الإرهاب عسكريا وأمنيا وفكريا، وتحسين العلاقات مع جميع دول الجوار، ومنطقة الساحل خصوصا، وإفريقيا عموما، والتحول سريعا إلى "رقم مفصلي" في المصالح المشتركة بين المنظومات الإقليمية والدولية، خاصة في مجال "التسويق الذكي" لموقعنا الجغرافي الاستراتيجي.