الولادة القيصرية: رغم كل التطورات السابقة عن طريق تشكيل الدولة الموريتانية لم تتحدد بعد معالم الوطن الجديد فالمقومات الأساسية لأي كيان قابل للحياة ما تزال غائبة والمجتمع عصي على السلطة المركزية وظل إلى وقت قريب لا يعرف غير سلطان القبيلة أو الإمارة، ويجري الآن تسيير أموره من الخارج وفقا لمنظومات قانونية لم يستوعب التعامل بها.
على طريق البحث عن طريق المفقود طرحت مجموعة من الأفكار حول طبيعة هذا الكيان وآلية الوصول إليه نستطيع أن نحددها فيما يلي:
فكرة الكيان الصحراوي الواحد: وتمثل محاولة من الجانب الفرنسي من شأنها أن تساعد على احتواء المطالب المغربية في موريتانيا كما أنها تعكس أطماع الفرنسيين في السيطرة على ثروات المنطقة بعد اكتشاف خامات الحديد في الصحراء الموريتانية وآبار النفط والغاز في الصحراء الجزائرية المحاذية، على أن يخضع هذا الكيان للسلطة الفرنسية، لكن هذه الفكرة لم تحظ بالقبول الكافي في الأوساط الفرنسية ذاتها أحرى أن تقبل بها القوى السياسية في البلدين (موريتانيا والجزائر).
فكرة الفيدرالية المالية التي تجمع البلدان المطلة على النهر، وقد روج لهذه الفكرة مجموعة من السياسيين في مالي والسنغال كما دعت إليها مجموعتان سياسيتان في جنوب موريتانيا هما "اتحاد المنحدرين من جنوب موريتانيا" و"الكتلة الديمقراطية لأبناء كوركول".
فكرة ربط البلاد بالمغرب واعتبارها جزء منه وهي فكرة روج لها لأول مرة زعيم حزب الاستقلال المغربي "علال الفاسي" على أساس أن المنطقة الصحراوية ما بين أكادير وضفة النهر هي أرض مغربية وقد تبنى هذه الدعوى الملك "محمد الخامس" ومما دعم الفكرة لجوء بعض السياسيين إلى المغرب كالزعيم "حرمه" و"محمد فال بن عمير" واثنين من وزراء الحكومة الأولى في عهد الاستقلال الذاتي.
كان محمد عبد الله ولد الحسن أحمد ممثلي موريتانيا في المجلس الموسع لغرب إفريقيا وكان بحكم علاقاته بالأطراف من أهم الشاهدين على هذه المرحلة كان صديقا للمختار منذ المدرسة الابتدائية وكان كل منهما يكن للآخر احتراما كبيرا رغم بعض الخلافات كما كانت له علاقات وطيدة ومتنوعة بالأطراف الأخرى.
كان من نوع الرجال لا يولدون كل يوم، حباه الله رجاحة في العقل وملكه فصل الخطاب حتى كاد أن يكون مضرب مثل.
كان حارسا للقيم الشمشوية متضلعا في التاريخ وعلم الاجتماع والفقه وبديع الشعر وكان أيضا حلو الشمائل جم العطاء.
هيأته هذه الفضائل لأن يكون دائما في الصدارة لكنه كان أيضا مستقلا في آرائه ومواقفه لا يعرف المحاباة، ختم حياته السياسية سنة 1969 باستقالة من المكتب السياسي للحزب والسفارة الموريتانية بغرب إفريقيا.
كانت مجموعة ولد حرمة تشكل معارضة قوية تحمل هموما وطنية استطاعت بناء موقف صلب كان لها تمثيلها في البرلمان والحكومة لكنها لم تستمر عناصر قوتها.
هاجر أحمد ولد حرمه فعين قائدا لجيش التحرير برتبة جنرال، عين بعد ذلك سفيرا للمملكة المغربية لدى ليبيا.. قبل أن يلتحق برابطة العالم الإسلامي.
هاجر الوزيران محمد المختار والدي وعين محمد المختار مديرا للإذاعة المغربية وشغل الدي مناصب سامية فقد كان وزيرا ثم رئيسا للبرلمان.
حين هاجر ولد عمير كان نائبا وعين في المغرب وزيرا للأقاليم الجنوبية.
وعلى ذكر محمد المختار بن أباه فإنه ينتمي لأسرة عريقة في الطب والصلاح.
تعرفت عليه وعايشته سنة 1952 في "اندر" كان نابغة، موهوبا، عصامي النفس، يقول الشاعر:
ولم أجد الإنسان إلا ابن سعيه فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا
وبالهمة العليا ترقى إلى العلا فمن كان أعلا همة كان أظهرا
حصل رغم "همومه السياسية" آنذاك على شهادة في الطيران وقدم أطروحة دكتوراه هي اليوم من أهم المراجع عن الأدب الموريتاني وتاريخه. تجاوز صيته حدود الوطن، شغل مناصب دولية هامة في منظمات عربية وإسلامية قبل أن يصبح أمينا عاما مساعدا لمنظمة المؤتمر الإسلامي. له تآليف في السيرة والحديث والأدب كما أنه عضو في معاجم لغوية عديدة. تم اختياره مؤخا ليرأس مجلس جوائز شنقيط نظرا لمكانته العلمية ومستواه الأخلاقي.
كان هناك شباب آخرون لا يقلون حماسا ووطنية وأهلية لقيادة النضال من هؤلاء بوياكي ولد عابدين وهيبه ولد همدي والشيخ ماء العينين ولد محمد الأمين الشبيه وبمب ولد بزيد ويحيى ولد منكوس وأحمد باب ولد أحمد مسكه وغيرهم وهذه الجماعة الأخيرة هي التي أنشأت النهضة سنة 1958 في كيهيدي.
ينتمي هيبه لبيت عز في منطقة آدرار، كان والده همد ولد محمود معروفا بالإنفاق لدى رواد مدينة أطار وظل بيته مفتوحا للفقير وابن السبيل وكان يحظى بثقة وقبول كبيرين لدى عامة السكان والسياسيين الوطنيين والسلطات الفرنسية. ولله در القائل:
همد للستر معهود إنير فيه واسد
من هو راجل لاه اعود فالستر كيفت همد
دخل هيبه التعليم الأساسي في منتصف الأربعينات وحصل على إجازة في الحقوق سنة 1959، واكب نشأة الدولة الموريتانية حيث كان من مؤسسي حزب النهضة الوطنية الذي ظل يشغل أمينه المالي حتى تم حله سنة 1960.
شغل منصب عمدة مدينة أطار في الفترة ما بين 1962 – 1968 قبل أن ينتقل إلى العمل الإداري بالمؤسسات العمومية، ظل مع ذلك عضوا في المكتب السياسي لحزب الشعب مكلفا بالأمانة الدائمة وبرتبة وزير.
كان سياسيا محنكا، مستنيرا متبصرا، ظلت مواقفه دائما تتسم بالمسؤولية. كان من المؤمنين بالمسلسل الديمقراطي الذي تبنته موريتانيا بقيادة الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع وبذل جهودا مضنية لإنجاحه.
استطاع حزب النهضة أن يمتص الحساسيات التي شكلت سابقا "حزب الوفاق الوطني" و"حركة الشبيبة الموريتانية" فكون بذلك قوة وطنية هامة ساهمت في التعبئة للاستقلال أثناء استفتاء سبتمبر 1958م الذي منحت فيه فرنسا لمستعمراتها الخيار بين البقاء معها أو الانفصال عنها.
ولئن جاءت نتائج هذا الاستفتاء مخيبة لآمال الكثير من القوى الوطنية فقد كرست حقيقة أن الاستقلال أصبح في الأفق المنظور مطلبا تناضل من أجله مختلف الأحزاب الوطنية على اختلاف مشاربها.
رغم مرور نصف قرن تقريبا على هذه الأحداث لا زال من الصعب تقييم تجربة هؤلاء السياسيين لكن يبقى أن "السياسة هي فن الممكن" وإذا كان على السياسيين أن يحذروا من شيئين فمن "منطق الكل أو لا شيء" وسياسة "المقاعد الشاغرة".
لم يحسن هؤلاء تقدير الأمور وضحوا بتجربة 20 سنة من العمل الميداني فأضاعوا بذلك فرصة تاريخية وحرموا البلاد من الاستفادة من قدراتهم وسهلوا مهمة خصومهم السياسيين.
نفس الفرصة أضاعها معارضون آخرون بعد 40 سنة من ذلك التاريخ كان ذلك عند مقاطعة الانتخابات البرلمانية سنة 1992.
ونتيجة لتفاعل كل هذه الأفكار برز اتجاه جديد يسعى لتكوين كيان سياسي مستقل كامل السيادة وفق حدود معروفة وقد تلفت الدولة المستعمرة أطروحات هذا الاتجاه ببرودة شديدة أولا وسعت فيما بعد إلى إبقاء الكيان الوليد تحت مظلتها.